هل يجوز أن يصف نفسه بأنه " مسلم أرثوذكسي " دلالة على تمسكه بالإسلام ؟
أحياناً يَسأل بعضُ الناسِ - وبالأخص غير المسلمين - المسلمين فيقولون : أي نوع من المسلمين أنت ؟
فهل يجوز أن أرد عليهم بقولي : " مسلم أرثوذوكسي" .
فكلمة " أرثوذوكسي " تعني المتمسك حق التمسك ، وأنا أعني بذلك أني مسلم محافظ متمسك بالكتاب والسنة ، سائر على نهج السلف الصالح .
فأنا أقترح استخدام هذا المصطلح - بالأخص مع غير المسلمين - لأنهم لا يعرفون ما معنى أن تقول لهم : أنا سلفي ، أو من أهل السنة والجماعة ، أو من أهل الحديث .
فكل هذه أشياء لا يعرفون تفاصيلها ، فكان عندئذٍ استخدام كلمة " أرثوذوكسي " أقرب إلى فهمهم ، فهم يعلمون أن معنى " أرثوذوكسي " أي : المتمسك حق التمسك
وعليه ، فهل يجوز لي أن أستخدم هذا المصطلح ؟ وجزاكم الله خيراً .
الجواب
الحمد لله.
لا يجوز للمسلم أن يصف نفسه بأنه " مسلم أرثوذكسي " ولو كان غرضه من ذلك إفهام غير
المسلمين أنه من الملتزمين بدين الإسلام ، وذلك لبعض أسباب ، منها :
أولا :
أن هذا الوصف عَلَم على ملة من ملل الكفر التي جاء الإسلام بهدمها ، وبيان بطلانها
، فكيف يجوز للمسلم أن يسمي نفسه بها ، أو يشبه دينه بهذه الملة الكفرية ، وقد
أمرنا بمخالفتهم في هديهم وخصائصهم ؛ فكيف بالتسمي بأسمائهم ، وقد سمانا الله باسم
المدح : الإيمان والإسلام ؛ فهذا في الواقع جمع بين نقيضين : الإسلام ، والكفر .
ثانيا :
أن في هذا الوصف تزكية – ولو من وجه بعيد – للطائفة الأرثوذكسية ، وكأن هذه الطائفة
تتبع الديانة الحقة ، وتتمسك بالصراط المستقيم ؛ لأن الغالب أن المشبه به أعلى
مرتبة من المشبه ، فإذا وصفت نفسك بأنك " مسلم أرثوذكسي " رفعت مقام الأرثوذكسية
على مقام الإسلام من حيث تشعر أو لا تشعر ، وهذا لا شك خطر عظيم على دينك واعتقادك
.
ثالثا:
قولك إنك " مسلم أرثوذكسي " فيه تشبيه ظاهر للإسلام الحق بالأرثوذكسية ، سواء قصدت
هذا التشبيه أو لم تقصده ؛ فإن من لازم الوصف تشبيه الموصوف بما يحمله الوصف من
معان ، والأصل في المسلم أن لا يرضى تشبيه الإسلام بالأرثوذكسية ، ففي ذلك جناية
عظيمة على هذا الدين العظيم بعقيدته وشريعته التي لا وجه للمقارنة بينها وبين
الأرثوذكسية .
ثالثا :
لا يعدم المسلم الذي يتحلى بالوعي والثقافة انتقاء الكلمات والأوصاف التي تدل على
مراده من غير إيهام المعاني الباطلة ؛ فالقصد الصحيح ليس عذرا في الأعمال والأقوال
الباطلة ، بل لا من أمرين : أن يكون القول والعمل صالحا ، وأن يكون القصد - أيضا -
صالحا .
قال ابن القيم رحمه الله في سياقه للأدلة على المنع من فعل ما يؤدي إلى الحرام ،
ولو كان جائزا في نفسه : " الْوَجْهُ الرَّابِعُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا البقرة/ 104 نَهَاهُمْ سُبْحَانَهُ
أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ - مَعَ قَصْدِهِمْ بِهَا الْخَيْرَ - لِئَلَّا
يَكُونَ قَوْلُهُمْ ذَرِيعَةً إلَى التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ فِي أَقْوَالِهِمْ
وَخِطَابِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقْصِدُونَ بِهَا السَّبَّ، وَيَقْصِدُونَ
فَاعِلًا مِنْ الرُّعُونَةِ، فَنَهَى الْمُسْلِمُونَ عَنْ قَوْلِهَا؛ سَدًّا
لِذَرِيعَةِ الْمُشَابَهَةِ، وَلِئَلَّا يَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى أَنْ
يَقُولَهَا الْيَهُودُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
تَشَبُّهًا بِالْمُسْلِمِينَ يَقْصِدُونَ بِهَا غَيْرَ مَا يَقْصِدُهُ
الْمُسْلِمُونَ ." انتهى من "إعلام الموقعين" (3/110) .
رابعا :
نقول ما سبق فضلا عن المغالطة الكبيرة في الأمر الذي يتداوله كثير من الكاتبين حين
يصفون الأرثوذكسية بالالتزام والتمسك بما كان عليه السيد المسيح عليه السلام ، وهذا
تحريف كبير على المستوى الفكري العقائدي وعلى المستوى الواقعي .
" فالكنيسة الأرثوذكسية مثل باقي الكنائس الأخرى تؤمن بإله واحد مثلث الأقانيم :
الأب ، الابن ، الروح القدس ، على حسب ما ورد في قانون الإيمان النيقاوي 325م ، كما
تؤمن بربوبية وألوهية الرب والمسيح في آن واحد على أنهما من جوهر واحد ومشيئة واحدة
، ومتساويين في الأزلية ، لكن كنيسة أورشليم الأرثوذكسية اليونانية ومن يتبعها تؤمن
بأن المسيح له طبيعتان ومشيئتان موافقةً لمجمع كليدونية 451م ، ويؤمن الأرثوذكس
بالزيادة التي أضيفت على قانون الإيمان النيقاوي في مجمع القسطنطينية عام 381م التي
تتضمن الإيمان بالروح القدس الرب المحيي والمنبثق من الأب وحده ، فله طبيعته وجوهره
، وهو روح الله وحياة الكون ومصدر الحكمة والبركة فيه ، والإيمان بتجسُّد الإله في
السيد المسيح من أجل خلاص البشرية من إثم خطيئة آدم ، وذريته من بعده ، والإيمان
بأن السيدة مريم العذراء والدة الإله ، ولذا يوجبون تقديسها كما يقدسون القديسين "
انتهى باختصار وتصرف يسيرين من " الموسوعة الميسرة " (2/593-594)
وهذه كلها عقائد محرفة مشوهة ، لم يأت بها المسيح عليه السلام ، ولم يدع الناس
إليها ، كما أن الشعوب الأرثوذكسية لا تختلف كثيرا عن الشعوب الكاثوليكية أو
البروتستانتية من حيث التمسك بتعاليم كنائسهم أو عدمه ، فالإلحاد بينهم منتشر ،
والفجور والوقوع في الجريمة والرذيلة أيضا لا تردعه أرثوذكسية ولا كاثوليكية ، ولا
نجد في الشعوب الأرثوذكسية ميزة ظاهرة عن غيرها من أتباع الطوائف الأخرى .
خامسا :
الواجب على العبد أن يتسمى باسم الإسلام ، وأن يتمدح بما مدح الله به عباده ، فهو
الاسم الذي سمانا الله عز وجل به ، ومن سماه ربه لا يرضى عن اسمه بديلا أو تغييرا
أو تعديلا ، فقد قال الله عز وجل : ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ
وَفِي هَذَا ) الحج/78.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" عن ابن عباس في قوله : ( هو سماكم المسلمين من قبل ) قال : الله عز وجل ، وكذا
قال مجاهد ، وعطاء ، والضحاك ، والسدي ، وقتادة ، ومقاتل بن حيان ، قال مجاهد :
الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة وفي الذكر ، ( وفي هذا ) يعني :
القرآن . وكذا قال غيره ، وهذا هو الصواب " انتهى من " تفسير القرآن العظيم "
(5/456)
وقد أمرنا عليه الصلاة والسلام أن نتسمى بما دعانا الله عز وجل به ، وننبذ كل دعوة
أخرى يتعصب الناس فيها لوصف أخص من وصف " الإسلام " الذي يحمل في طياته جميع
المعاني الشرعية التي يحبها الله من عباده ، فالأوصاف الخاصة لا تنفك عن تضييق
وتأطير لمفهوم الإسلام الشامل الواسع ، والمسلم لا يرضى أن يختزل انتسابه إلى جميع
مفردات هذا الدين العظيم بانتسابه إلى مفردات محدودة ضيقة ، يقول النبي صلى الله
عليه وسلم : ( فَادْعُوا بِدَعْوَى اللهِ الَّذِي سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ
الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ ) رواه الترمذي (رقم/2863) وقال : حسن صحيح غريب ،
وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
فإذا احتيج إلى شيء من الإضافات للتمييز ، ونحو ذلك ، فالواجب أن تكون إضافات ونسبا
شرعية ، لا تشبه فيها بغير المسلمين .
والله أعلم .