الحمد لله.
ثانياً:
نحب أن ننبِّه الأخ السائل – وغيره ممن يقرأ هذا الجواب – على ضرورة التفريق بين
الطاعات الواجبة والطاعات المستحبة ؛ حيث إن ترك الواجبات يوقع فاعله في المعصية
ويوجب استحقاق الإثم ، وليس لهذا الأمر تعلق بطاعة الوالدين ولا غيرهما ؛ إذ لا
طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل .
وصلاة الجماعة في المسجد من الواجبات لا المستحبات ، وعليه : فلا تجب طاعة الوالدين
اللذين يمنعان ابنَهما البالغ العاقل القادر على الذهاب للمسجد من غير خوف ولا ضرر
، من الذهاب إلى بيت الله تعالى ليقيم فرائض الله تعالى فيها ، وقد روى الإمام
البخاري في صحيحه - ( 1 / 230 ) – معلَّقاً عن الحسن البصري رحمه الله قوله " إن
منعتْه أمُّه عن العشاء في الجماعة شفقة : لم يطعها " ، وقد سئل الإمام أحمد رحمه
الله عن الرجل ينهاه أبوه عن الصلاة في جماعة ، قال : " ليس له طاعته في الفرض " .
انظر " غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب " للسفاريني ( 1 / 385 ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
نصوص أحمد تدل على أنه لا طاعة لهما في ترك الفرض ، وهي صريحة في عدم ترك الجماعة
وعدم تأخير الحج .
" المستدرك على مجموع الفتاوى " ( 3 / 217 ) .
ثالثاً:
أما المستحبات والنوافل فلا شك أن فعلها مما يزيد في إيمان المسلم ، وهو يحتاج
لفعلها ليتقرب من ربِّه عز وجل فيثيبه عليها ، وفعل المستحبات التي من جنس الفرائض
مما يجبر نقصها ، فأداء نوافل الصلوات والمستحبات منها يجبر نقص الصلوات الخمس ،
والصدقة النافلة تجبر النقص في الزكاة ، وهكذا الأمر في بقية الفرائض ، ولذا فلا
يستغني المسلم عن فعل المستحبات والنوافل لتلك الأمور كلها .
فهل يجب على الولد طاعة والديه إذا أمراه بترك المستحبات والنوافل ؟
للجواب على ذلك نقول : إن ضابط بر الوالدين في الطاعة يمكن إجماله في أمور :
1. أن يكون أمرهما في مباح لا في ترك واجب ولا فعل محرَّم .
2. أن يكون لهما فيما يأمران به نفع لهما أو مسوِّغ شرعي .
3. أن لا يكون فيما يأمران به ضرر على ولدهما ، وأما إن كان فيه مشقة عليه فتجب
الطاعة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
ويلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية وإن كانا فاسقين ، وهو ظاهر إطلاق أحمد ،
وهذا فيما فيه منفعة لهما ولا ضرر ، فإن شق عليه ولم يضره : وجب ، وإلا فلا .
" الفتاوى الكبرى " ( 5 / 381 ) .
وعليه فيقال : بماذا ستنتفع الأم من أمرها ولدها بعدم صلاة السنن والامتناع عن
قراءة القرآن ؟! نعم ؛ لو كانت محتاجة له لخدمتها أو رعايتها ، أو طلبت منه عونا ما
، أو نادت عليه ، وتعارض ذلك مع قيامه بنافلة أو أمر مستحب : فحينها يقال له
فلتقدِّم الواجب – وهو بر أمك – على المستحب والنافلة ، أما عندما لا توجد حاجة أو
منفعة للأم أو للأب في ترك ولدهما لشيء من النوافل والمستحبات ولا يوجد مسوغ شرعي
لهذا الأمر : فحينها يقال له : لا تطعهما ودارِهما وقل لهما قولا معروفاً ، وحاول
أن لا تظهر أنك تفعل شيئاً من النوافل والمستحبات أمامهما ، مع ضرورة دوام النصح
والتذكير لهما بأهمية فعل الطاعات والتقرب إلى الله تعالى بها وحاجة المسلم لتكثير
حسناته ليلقى بها ربه تعالى .
والخلاصة في طاعة الوالدين في المستحبات والنوافل :
1. إذا كان أمر الوالدين لولدهما أن لا يصلي النوافل ولا يفعل الطاعات المستحبة
بالكلية : فلا يطاعان ؛ لأن في هذا إماتة لتلك الشعائر مع عدم انتفاعهما بذلك الترك
.
سئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل أمره أبواه أن لا يصلي إلا المكتوبة فقال "
يداريهما ويصلي" .
انظر " غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب " ( 1 / 384 ) .
قال ابن مفلح الحنبلي – رحمه الله - :
وذكر أبو البركات – وهو جد شيخ الإسلام ابن تيمية - أن الوالد لا يجوز له منع ولده
من السنن الراتبة ، وكذا الزوج والسيد ، ومقتضى كلام صاحب " المحرر " – وهو نفسه
أبو البركات - هذا : أن كل ما تأكد شرعاً ، لا يجوز له منع ولده ؛ فلا يطيعه فيه .
" الآداب الشرعية " ( 2 / 42 ) باختصار .
2. إذا كان أمر الوالدين ولدهما بترك طاعة مستحبة لنفع لهما ، أو لخوف عليه حقيقي
غير موهوم : فتجب طاعتهما ، كمن تأمر ابنها بعدم السفر لطلب العلم لصغر سنه وعدم
قدرته على تدبير أمره ، أو كمن يأمره أبوه أن لا يصوم التطوع لضعف في بدنه أو
لرغبته أن يشاركهم في دعوة على طعام لقريب أو صديق أو جار ، أو كمن يحتاج له والداه
ليوصلهما لحاجة لهما أو ليبقى بجانبهما للعناية بهما .
3. إذا كان منع الوالدين ولدهما من فعل المستحبات والنوافل لهوى في نفوسهما ، أو
لقلة دين منهما ، أو لضعف في العقل والتمييز : فلا طاعة لهما ، ومع ذلك فليحسن لهما
القول ويصاحبهما بالمعروف .
قال ابن حجر الهيتمي – رحمه الله - :
وحيث نشأ أمر الوالد أو نهيه عن مجرد الحمق : لم يلتفت إليه ؛ أخذاً مما ذكره
الأئمة في أمره لولده بطلاق زوجته ، وكذا يقال في إرادة الولد لنحو الزهد ومنع
الوالد له : أن ذلك إن كان لمجرد شفقة الأبوة فهو حمق وغباوة ، فلا يلتفت له الولد
في ذلك .
" الفتاوى الفقهية الكبرى " ( 2 / 104 ) .
وقال – رحمه الله – أيضاً - :
إذا ثبت رشد الولد الذي هو صلاح الدين والمال معاً : لم يكن للأب منعه من السعي
فيما ينفعه ديناً أو دنيا ، ولا عبرة بريبة يتخيلها الأب ، مع العلم بصلاح دين ولده
وكمال عقله .
" الفتاوى الفقهية الكبرى " ( 2 / 104 ) .
وسئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :
ما الحكم إذا لم يسمح الوالد لولده بالاعتكاف وبأسباب غير مقنعة ؟ .
فأجاب :
الاعتكاف سنَّة ، وبر الوالدين واجب ، والسنة لا يسقط بها الواجب ولا تعارض الواجب
أصلاً ؛ لأن الواجب مقدم عليها ، وقد قال تعالى في الحديث القدسي ( ما تقرب إليَّ
عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه ) – رواه البخاري - فإذا كان أبوك يأمرك بترك
الاعتكاف ويذكر أشياء تقتضي أن لا تعتكف لأنه محتاج إليك فيها : فإن ميزان ذلك عنده
وليس عندك ؛ لأنه قد يكون الميزان عندك غير مستقيم وغير عدل ، لأنك تهوى الاعتكاف
فتظن أن هذه المبررات ليست مبرراً ، وأبوك يرى أنها مبرر : فالذي أنصحك به أن لا
تعتكف .
لكن لو لم يذكر مبررات لذلك : فإنه لا يلزمك طاعته في هذه الحال ؛ لأنه لا يلزمك أن
تطيعه في أمر ليس فيه منفعة له ، وفيه تفويت منفعة لك .
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " ( 20 / 159 ) .
وسئل الشيخ - رحمه الله – أيضاً :
عن طالب علم يريد أن يذهب مع إخوانه في الله لطلب العلم ، وكان الحائل بينه وبين
الذهاب معهم هو أهله ، والده وأمه ، فما الحكم في خروج هذا الطالب ؟ .
فأجاب :
هذا الطالب إن كان هناك ضرورة لبقائه عندهم : فهذا أفضل ، مع أنه يمكنه أن يبقى
عندهم مع طلب العلم ؛ لأن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله ، والعلم من
الجهاد ، وبالتالي فيكون بر الوالدين مقدماً عليه إذا كانا في حاجة إليه ، أما إذا
لم يكونا في حاجة إليه ويتمكن من طلب العلم أكثر إذا خرج : فلا حرج عليه أن يخرج في
طلب العلم في هذه الحال ، ولكنه مع هذا لا ينسى حق الوالدين في الرجوع إليهما
وإقناعهما إذا رجع .
وأما إذا علم كراهة الوالدين للعلم الشرعي : فهؤلاء لا طاعة لهما ، ولا ينبغي له أن
يستأذن منهما إذا خرج ؛ لأن الحامل لهما كراهة العلم الشرعي .
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " ( 26 / 58 ، 59 ) .
والله أعلم