الحمد لله.
لا بد أولا أن تدركي – أختنا السائلة – أن التمسك بالاستقامة والمحافظة على
الالتزام خير ما يعيش به المرء ويموت عليه ، فهو العهد الذي أخذه الله عز وجل علينا
نحن المسلمين ، وهو النور الذي يؤانسنا في وحشة القبور ، وفي ظلمات المحشر يوم
القيامة .
ولعل أمرا واحدا من أمور استقامتك على طاعة الله ومرضاته ، أن يكون سبب دخول الجنة
، وليس ذلك على الله بعزيز ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ :
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ
بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ ) رواه
البخاري (3467) ومسلم (2245)
أفليس من الممكن أيضا أن يكون اجتناب الغش - في بيئة تعتاد هذه المعصية وتراها أيسر
ما يكون – سببا لدخول الجنة ؟!
أوليست الجنة أقصى ما يتمناه المسلم في حياته وفي مماته ؟!
نقول هذا كي نبث الثقة في قلب كل مسلم تعترضه الفتن ، وتجتاحه الأطماع من حوله ،
ولكنه يستمسك بالعروة الوثقى ، ويبقى صابرا محتسبا أمره عند الله عز وجل ، حتى يكون
من القليل الذين وصفهم الله عز وجل بقوله : ( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ .
أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ . فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ . ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ
. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ) الواقعة/10-14.
ثم تخيلي أنك انزلقت فيما يدعوك إليه زميلاتك من الفتيات ، وأنك وقعت في معصية الغش
واستمرأها قلبُك ، فما الذي يبقى لك إن حاسبك الله عليها حساب الكبائر والموبقات ،
ألست تعلمين أن كثيرا من العلماء ذكر الغش في كبائر الذنوب ، كما فعل العلامة ابن
حجر الهيتمي في " الزواجر عن اقتراف الكبائر " (1/393)، وأي وجه يلقى فيه العبد ربه
يوم القيامة إذا لقيه محملا بالكبائر ، ومثقلا بالموبقات ، وقد خسر مغفرة الصغائر
أيضا ، وخسر أن يكون مع المحسنين ، يقول عز وجل : ( وَلِلَّهِ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى . الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ
الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ )
النجم/31-32.
واعلمي أن الأمانة أول ما ينزع من هذه الأمة ، وأنها من أحب الأخلاق التي يتقرب
العبد بها لربه عز وجل ، أفلا ترضين أن يكتبك الله من الأمناء ، وأن تكوني من أولئك
القلائل الذين بقيت الأمانة في قلوبهم ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : (
فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ ،
فَيُقَالُ : إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلًا أَمِينًا ، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ :
مَا أَعْقَلَهُ ! وَمَا أَظْرَفَهُ ! وَمَا أَجْلَدَهُ ! وَمَا فِي قَلْبِهِ
مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ ) رواه البخاري (6497) ومسلم (143)
يقول ابن الجوزي رحمه الله :
" فما زالت تلك النفس الطاهرة ... مشغولة بتوطئة رحلها لرحيلها ، فإن صعد حافظاها
فالصحيفة نقية ، وإن جاء البلاء فالنفس صابرة تقية ، وإن أقبل الموت وجدها من الغش
خلية ، فيا طوبى لها إذا نوديت يوم القيامة : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي
عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي ) الفجر/37-30 " انتهى من " المواعظ " (ص/97)
لذلك نوصيك باستشعار عظم
المنزلة التي أنت عليها ، واستشعار معية النبي صلى الله عليه وسلم في الدين
والعقيدة ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : ( من غشّنا فليس منّا ) رواه مسلم (101)،
ومفهوم الحديث أن من لم يغش فهو من النبي صلى الله عليه وسلم ، أي من أتباعه
وأحبابه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
كما نوصيك بالثقة بتوفيق
الله سبحانه وتعالى ، فهو عز وجل قد أقام السماء والأرض على الحق والعدل ، ولن
يستوي عنده المُتَلوِّن المراوغ - الذي يبيع أمانته في أول محنة وأقرب امتحان – مع
الثابت على المبادئ ، الصابر على الاستقامة ، الذي لا يرضى أن ينال من الدنيا ما
ليس له فيه حق شرعي ، وإنما يرضى بما يقسم الله عز وجل له من حظ ونصيب ، ويسعد
بالمستقبل الأكاديمي الذي يتحصل عليه بالطريق المباح ، ولا يغتر بقلة السالكين ولا
بكثرة الهالكين ، فالدنيا مليئة بتفاوت الأرزاق والآجال بحق وبغير حق ، فيها الغني
الفاجر الذي حقق ثروته في أيام معدودات بالكسب الحرام ، وفيها الفقير الصابر الذي
ينصَب ويتعب ولا يكاد يجد قوته وقت عياله ، ولكنه لم يغتر بفساد الفاسدين ، بل رجع
إلى نفسه وقنعها بالحكمة والموعظة الحسنة ، واستسلم لقضاء الله ، فهو عز وجل له
الحكمة البالغة في شؤون هذا الكون .
نسأل الله تعالى لنا ولك التوفيق والسداد ، والثبات التام على الاستقامة .
والله أعلم .