الحمد لله.
والجواب أن الحديث المشهور الوارد في هذا الباب يُروَى عن عبدالله بن عبد الرحمن
بن أبي حسين ، عن شهر بن حوشب ، عن عبدالرحمن بن غنم ، وقد اختلفت رواياته على عدة
أوجه .
يقول الإمام الدارقطني رحمه الله :
" رواه عبد العزيز بن الحصين ، عن ابن جحادة ، عن ابن أبي حسين ، عن شهر بن حوشب ،
عن ابن غنم ، عن أبي هريرة .
وخالفه زهير ؛ فرواه عن ابن جحادة ، وأرسله ، ولم يذكر فيه أبا هريرة .
ورواه زيد بن أبي أنيسة ، عن ابن أبي حسين ، عن شهر ، عن ابن غنم ، عن أبي ذر .
ورواه حصين بن منصور ، عن ابن أبي حسين ، عن شهر ، عن ابن غنم ، عن معاذ .
ورواه معقل بن عبيد الله ، وهمام ، عن ابن أبي حسين ، عن شهر ، عن ابن غنم ، مرسلا
.
وقيل : عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن ابن أبي حسين ، عن شهر ، عن أبي أمامة .
والاضطراب فيه من قبل شهر " انتهى من " العلل " (11/74-75)، وأيضا (6/44-46) .
وقال في موضع آخر :
" وخالف الجماعة عبد الحميد بن بهرام ، فرواه عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة ، أن
النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك القول ابنته فاطمة.
ويشبه أن يكون الاضطراب فيه من شِهر ، والله أعلم.
والصحيح عن ابن أبي حسين المرسل ابن غنم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى من
" العلل " (6/248) .
فالوجه الأدق في إسناد هذا الحديث هو : ابن أبي حسين ، عن شهر ، عن عبد الرحمن بن
غنم مرسلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولفظه : ( مَنْ قَالَ قَبْلَ أَنْ
يَنْصَرِفَ وَيَثْنِيَ رِجْلَهُ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالصُّبْحِ : لَا إِلَهَ
إِلَّا اللهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ،
بِيَدِهِ الْخَيْرُ ، يُحْيِي وَيُمِيتُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
عَشْرَ مَرَّاتٍ ، كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، وَمُحِيَتْ
عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ ، وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ ، وَكَانَتْ حِرْزًا
مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ ، وَحِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، وَلَمْ يَحِلَّ
لِذَنْبٍ يُدْرِكُهُ إِلَّا الشِّرْكَ ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ النَّاسِ عَمَلًا ،
إِلَّا رَجُلًا يَفْضُلُهُ ، يَقُولُ : أَفْضَلَ مِمَّا قَالَ ) .
رواه أحمد في " المسند " (29/512) ومعنى قوله ( قبل أن يثني رجليه ) أي : يعطفهما
ويغيرهما عن هيئة التشهد ، كما يقول الملا علي القاري في " مرقاة المفاتيح "
(2/773) .
وهذا إسناد ضعيف ظاهر الضعف ، فيه علتان :
العلة الأولى : شهر بن حوشب ، فقد وثقه بعض العلماء ، ولكن الجرح المفسر من غيرهم
أولى بالقبول ، فقد قال ابن حبان : كان ممن يروى عن الثقات المعضلات ، وعن الأثبات
المقلوبات ، وقال ابن عدي : عامة ما يرويه شهر وغيره من الحديث فيه من الإنكار ما
فيه ، وشهر ليس بالقوي في الحديث ، وهو ممن لا يحتج بحديثه ولا يتدين به . انظر "
تهذيب التهذيب " (4/371)
ولذلك قال الدارقطني إن الاضطراب في هذا الحديث كله من شهر .
والعلة الثانية : هي الإرسال ، فعبد الرحمن بن غنم مختلف في صحبته ، وعلى فرض
ثبوتها فقد اتفقوا على أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، ذكره ابن حبان فى
التابعين من كتاب " الثقات " (3938) ، وقال : " زعموا أن له صحبة ، وليس ذلك بصحيح
عندي : . انظر " تهذيب التهذيب " (6/251) .
وجاء في " جامع التحصيل " (ص/225): " قال أحمد بن حنبل : أدرك النبي صلى الله عليه
وسلم ولم يسمع منه ، قلت : ولا رؤية له أيضا ، بل كان مسلما باليمن في حياة النبي
صلى الله عليه وسلم ولم يفد عليه ، ولزم معاذ بن جبل ، وهو من كبار التابعين ،
فحديثه مرسل ، وقد قيل إن له صحبة ، وذلك ضعيف " انتهى.
لذلك قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
" شهر بن حوشبٍ مختلفٌ فيه ، وهو كثير الاضطراب ، وقد اختلف عليه في إسناد هذا
الحديث كما ترى .
وقد روي نحوه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجوهٍ أخر ، كلها ضعيفةٌ
" انتهى من " فتح الباري " (7/428).
ومن هذه الوجوه الأخر الضعيفة ما يُروى عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال : ( مَنْ قَالَ فِي دُبُرِ صَلَاةِ الْغَدَاةِ : لَا إِلَهَ
إِلَّا اللهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ ،
يُحْيِي وَيُمِيتُ ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدْيرٌ
مِائَةَ مَرَّةٍ قَبْلَ أَنْ يَثْنِيَ رِجْلَيْهِ ، كَانَ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلَ
أَهْلِ الْأَرْضِ ، إِلَّا مَنْ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ ، أَوْ زَادَ عَلَى مَا
قَالَ ) .
رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (8/280)، وفي " المعجم الأوسط " (7/175) من
طريق ثلاثة من الشيوخ وهم ( آدم بن الحكم ، ومحمد بن صالح بن الوليد النرسي ، ومحمد
بن محمويه الجوهري ) جميعهم عن عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث ، ثنا أبي ،
ثنا آدم بن الحكم ، ثنا أبو غالب ، عن أبي أمامة رضي الله عنه .
قال الطبراني : لم يرو هذا الحديث عن أبي غالب إلا آدم بن الحكم ، ولا رواه عن آدم
إلا عبد الصمد بن عبد الوارث .
وقد حسن إسناد هذا الحديث جماعة من العلماء ، فقال الدمياطي : " إسناده جيد " انتهى من " المتجر الرابح " (63)، وقال الهيثمي : " رجاله ثقات " انتهى من " مجمع الزوائد " (10/111)، وقال ابن حجر : " حسن " انتهى من " نتائج الأفكار " (2/324)، وحسنه الألباني أيضا في " صحيح الترغيب " (رقم/476)، وفي " السلسلة الصحيحة " (رقم/2664) .
والواقع أن الحديث معلول بتفرد أبي غالب البصري به ، ترجمته في " تهذيب التهذيب
" (12/197) فيها أن أبا حاتم قال : ليس بالقوي ، وقال النسائي : ضعيف ، وقال ابن
حبان : لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات ، وقال ابن سعد : كان ضعيفا منكر
الحديث .
فمثله لا يقبل تفرده بحديث قد تكون فيه مخالفة للثابت من سنة النبي صلى الله عليه
وسلم من انصرافه عقب صلاته إلى وجوه الناس من غير إطالة ، وإن قال فيه ابن معين :
صالح الحديث ، أو حسن له الترمذي ووثقه الدارقطني .
كما أن آدم بن الحكم ورد عن ابن معين في رواية عنه قوله فيه : لا شيء ، وفي رواية
أخرى قال : صالح ، وكذلك نقل ابن حجر في " لسان الميزان " (2/15) قول ابن أبي حاتم
: تغير حفظه ، ولكننا لم نقف على هذا النقل في " الجرح والتعديل " (2/267) لابن أبي
حاتم ، وإنما فيه قوله عن أبيه : ما أرى بحديثه بأسا .
ثانيا :
على فرض التسليم بتصحيح الحديث فللعلماء توجيهات عدة له ، على أقوال :
القول الأول : فسره بعض العلماء بأن المقصود به المأموم ، أما الإمام فيكره له
البقاء على هيئته بهذا القدر ، بل ينصرف إلى الناس بوجهه ، ويأتي بالأذكار وهو مقبل
عليهم .
قال الشيخ عبدالكريم الخضير حفظه الله :
" هذا بالنسبة للمأموم , بالنسبة لصلاة الصبح , وباق على افتراشه كالتشهد ، وفي
صلاة المغرب وهو متورك ، لا يغير جلسته وثني رجليه قبل السلام ، يستمر حتى يقول :
لا إله إلا الله إلى آخره عشر مرات بعد صلاة الصبح وبعد صلاة المغرب " انتهى من "
شرح الأربعين النووية " (8/9 بترقيم الشاملة) .
واستدلوا على ذلك بما ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان لا يبقى متجها إلى القبلة إلا مقدارا يسيرا ، بل ثبت عنه عليه الصلاة والسلام
في صلاة الفجر خاصة أنه كان إذا صلى بالناس أقبل عليهم بوجهه ، كما جاء عَنْ
سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلاَةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ ) رواه البخاري
(رقم/845) .
وهذا يفهم منه التعقيب ، وعدم الفصل الطويل .
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله :
" لم يرخِّص في إطالة استقبال الإمام القبلة بعد سلامه للذكر والدعاء إلا بعض
المتأخرين ممن لا يعرف السنن والآثار . ومنهم من استحب في عقب صلاة الفجر أن يأتي
بالتهليل عشر مرات ، ذكره طائفةٌ من أصحابنا وغيرهم – ثم أطال في بيان ضعف حديث أبي
ذر الذي يرويه الترمذي ، ثم قال – وحكى بعض أصحاب سفيان الثوري عنه ، أنه قال :
يستحب للإمام إذا صلى أن لا يجلس مستقبل القبلة ، بل يتحول من مكانه أو ينحرف ، إلا
في العصر والفجر .
ولم يأخذ الإمام أحمد بحديث أبي ذر ، فإنه ذكر له هذا الحديث فقال : أعجب إليّ أن
لا يجلس ؛ لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلى الغداة أقبل
عليهم بوجهه " انتهى باختصار من " فتح الباري " لابن رجب (7/427) .
وقد سبق تقرير هذه المسألة بالتفصيل في جواب السؤال رقم (164929) .
القول الثاني : أن المقصود بقوله ( قبل أن يثني رجليه ) أي وهو في مكانه ، سواء
تحول بوجهه إلى الناس أم لا .
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" أما ما جاء في الحديث : ( قبل أن يثني رجليه ) فالمعنى : أنه إذا قال ذلك وهو في
مكانه ، سواءٌ ثنى رجليه اتباعاً للسنة كالإمام أم لا " انتهى من " اللقاء الشهري "
(لقاء رقم/36، سؤال رقم/17) .
القول الثالث : أجوبة أخرى ذكرها الإمام الشوكاني رحمه الله فقال : " يمكن الجمع بحمل مشروعية الإسراع على الغالب كما يشعر به لفظ ( كان ) ، أو على ما عدا ما ورد مقيدا بذلك من الصلوات ، أو على أن اللبث مقدار الإتيان بالذكر المقيد لا ينافي الإسراع ؛ فإن اللبث مقدار ما ينصرف النساء ربما اتسع لأكثر من ذلك " انتهى من " نيل الأوطار " (2/360) .
والخلاصة من ذلك كله : أننا نرجح تضعيف الحديث ، وعلى فرض صحته ، أو من أحب
العمل به لتعلقه بفضائل الأعمال ، فإنه لا يلزم من القول به تأخر الإمام بالانصراف
بوجهه إلى الناس ، بل إما أنه خاص بالمأمومين ، أو المقصود به أن يأتي بالذكر في
مكانه بعد إقباله على الناس .
والله أعلم .