الحمد لله.
القول الثاني : عدم الاحتجاج بالقراءة الشاذة إذا
استقلت بإثبات حكم جديد ، أما إن كانت قراءة بيانية وصح سندها ولم يعارضها خبر أو
قياس فيجوز الاحتجاج بها .
قال الزركشي في تحقيق مذهب الشافعي في المسألة : " إما أن تكون القراءة الشاذة وردت
لبيان حكم ، أو لابتدائه ، فإن وردت لبيان حكم ، فهي عنده حجة ، كحديث عائشة في
الرضاع وقراءة ابن مسعود : ( أيمانهما ) ، وقوله : ( لقبل عدتهن ) ، وإن وردت
ابتداء حكم ، كقراءة ابن مسعود ( متتابعات ) فليس بحجة .." انتهى من " البحر المحيط
" (1/388) .
القول الثالث : عدم صحة الاحتجاج بالقراءة الشاذة مطلقًا وهو مذهب الإمام مالك ،
وأحد قولي الإمام الشافعي وبعض أصحابه ، والآمدي وابن الحاجب وابن العربي وحكي
رواية عن الإمام أحمد.
انظر : " المستصفى " للغزالي (1/194) ، و" الإحكام " للآمدي (1/160) ، و" مختصر ابن
الحاجب " (2/19) ، و " مختصر الطوفي " ص46 ، و" شرح الكوكب المنير " لابن النجار
(2/140) .
وهؤلاء قالوا : لا يجوز الاحتجاج بالقراءة الشاذة لأن ناقلها لم ينقلها إلا على
أنها قرآن ، وإذا لم تثبت قرآنًا لم تثبت خبرًا ، ومن ثم لا يصح الاحتجاج بها .
قال النووي : " مذهبنا أن القراءة الشاذة لا يحتج بها، ولا يكون لها حكم الخبر عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ناقلها لم ينقلها إلا على أنها قرآن ، والقرآن
لا يثبت إلا بالتواتر بالإجماع ، وإذا لم يثبت قرآنًا لا يثبت خبرًا " انتهى .
"شرح صحيح مسلم" للنووي (2/420) .
وأجاب الجمهور عن ذلك بأنه لا يشترط في الخبر وصف الراوي له بأنه خبر ، وإنما أخطأ
الراوي في تسميته قرآنًا ولا يضر هذا ، بل نجعل القراءة كحديث آحاد صحيح يصح
الاحتجاج به .
ورد المخالفون بأن القراءة الشاذة لم تنقل على أنها خبر وقرآن معًا حتى يقال : لا
يلزم من انتفاء الأخص انتفاء الأعم ، ومن ثم فلا يلزم من انتفاء قرآنيته انتفاء
خبريته ، بل إنما نقل الأخص وهو القرآنية دون الأعم وهو الخبرية ، فبسقوط قرآنيته
يسقط الاحتجاج به ، وقالوا : ويحتمل أنه مذهب للصحابي ثم نقله قرآنًا وبذلك تسقط
حجيته .
والأظهر - والله أعلم - مذهب الجمهور ، وهو جواز الاحتجاج بالقراءة الشاذة ؛ لأن
الناقل لهذه القراءة قد ثبتت عدالته ، ولو نقلها خبرًا لوجب قبول خبره ، ويَبعُد أن
تكون هذه القراءة مجرد قول أو مذهب للصحابي ، لأنه من المحال أن يجعل مذهبه قرآنًا
.
قال ابن قدامة : " وقولهم : يجوز أن يكون مذهبًا له ، قلنا : لا يجوز ظن مثل هذا
بالصحابة رضي الله عنهم ؛ فإن هذا افتراء على الله وكذب عظيم ؛ إذ جعل رأيه ومذهبه
الذي ليس هو عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم قرآنًا ، والصحابة رضي
الله عنهم لا يجوز نسبة الكذب إليهم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره
، فكيف يكذبون في جعل مذاهبهم قرآنًا، هذا باطل يقينًا " انتهى من " روضة الناظر "
(1/181) .
ثالثا :
بناء على هذا الخلاف في الاحتجاج بالقراءة الشاذة ، وقع الخلاف في وجوب التتابع في
كفارة اليمين:
فذهب فريق من العلماء إلى وجوب التتابع اعتبارًا بقراءة ابن مسعود ( فصيام ثلاثة
أيام متتابعات ) ، وقياسًا على التتابع في كفارة الظهار .
وذهب الفريق الآخر إلى عدم وجوب التتابع في كفارة اليمين ، لعدم وجود الدليل على
اشتراط التتابع ، وردوا استدلال الجمهور بالقراءة الشاذة لابن مسعود بأنها ليست حجة
على مذهبهم كما أوضحنا ، ومن جهة أخرى أنه قد ثبت نسخها بما يروى عن عائشة رضي الله
عنها أنها قالت : " نزلت : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) ثم سقطت متتابعات " .
أورده ابن حجر العسقلاني في " موافقة الخبر الخبر " (1/52) وصحّح إسناده .
قال القرطبي : " قوله تعالى ( فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ) قرأها ابن مسعود "
متتابعات " فيقيد بها المطلق ، وبه قال أبو حنيفة والثوري ، وهو أحد قولي الشافعي
واختاره المزني قياساً على الصوم في كفارة الظهار ، واعتباراً بقراءة عبد الله ،
وقال مالك والشافعي في قوله الآخر : يجزئه التفريق ؛ لأن التتابع صفة لا تجب إلا
بنص أو قياس على منصوص وقد عُدِما " .
انتهى من " تفسير الجامع لأحكام القرآن " (6/283) .
وقال ابن حجر الهيتمي : " صح عن عائشة رضي الله عنها : ( كان فيما أنزل ثلاثة أيام
متتابعات فسقطت متتابعات ) ، وهو ظاهر في النسخ ، خلافًا لمن جعله ظاهرًا في وجوب
التتابع الذي اختاره كثيرون ، وأطالوا في الاستدلال له بما أطال الأولون في رده " .
انتهى من "تحفة المحتاج في شرح المنهاج " (4/296) .
وعلى كل حال فالأفضل أن يكون صيام كفارة اليمين متتابعاً ؛ احتياطُا وخروجًا من
الخلاف ، وإبراءً للذمة بيقين .
جاء في " فتاوى اللجنة الدائمة " (23/22) :
" الأفضل أن يكون صيام كفارة اليمين متتابعاً ، ولكن لو قطع التتابع فلا حرج في ذلك
" انتهى .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : " إن التتابع في صيام كفارة اليمين فيه
خلاف بين العلماء ، والأحوط التتابع فيه ، مع العلم أنه لا يعدل إلى الصيام إلا عند
العجز عن الإطعام أو الكسوة أو العتق " انتهى .
وينظر جواب السؤال رقم (12700)
.
والله أعلم .