الحمد لله.
وهذه المحبة للشرف والشهرة هي من الأمراض الخفية في النفوس ، ومهلكات القلب التي لا يكاد يتفطن إليها العبد إلا بعد أن تمضي به شوطا بعيدا ، يشق عليه استدراكه ، وإصلاح ما أفسدته منه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" كَثِيرًا مَا يُخَالِطُ النُّفُوسَ مِنْ الشَّهَوَاتِ الْخَفِيَّةِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهَا تَحْقِيقَ مَحَبَّتِهَا لِلَّهِ وَعُبُودِيَّتِهَا لَهُ وَإِخْلَاصِ دِينِهَا لَهُ كَمَا قَالَ شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ : يَا بَقَايَا الْعَرَبِ إنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرِّيَاءُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ ، قِيلَ لِأَبِي دَاوُد السجستاني : وَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ ؟ قَالَ : حُبُّ الرِّئَاسَةِ "
انتهى من "مجموع الفتاوى" (10 /214-215) .
ومن أعظم آفات حب الشهرة والشرف ، والتطلع إليها ، أن تطلب نفسه مدح الناس له ، بالحق أو بالباطل .
روى أحمد (16460) عن مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِيَّاكُمْ وَالتَّمَادُحَ فَإِنَّهُ الذَّبْحُ ) صححه الألباني في "صحيح الجامع" (2674) .
قال المناوي رحمه الله :
" المدح يورث العجب والكبر وهو مهلك كالذبح فلذلك شبه به ، قال الغزالي رحمه الله : فمن صنع بك معروفا فإن كان ممن يحب الشكر والثناء فلا تمدحه ؛ لأن قضاء حقه أن لا تقره على الظلم وطلبه للشكر ظلم ، وإلا فأظهر شكره ليزداد رغبة في الخير "
انتهى من " فيض القدير " (3 /167) .
ولهذا قال إبراهيم بن أدهم : " ما صدق الله عبد أحب الشهرة " .
انتهى من "العزلة والإنفراد" (ص 126)
وقال إبراهيم النخعي والحسن البصري : " كفى فتنة للمرء أن يشار إليه بالأصابع في دين أو دنيا إلا من عصمه الله " انتهى من " الزهد " لابن السري (2 /442) .
وكذا قال ابن محيريز كما في "تاريخ دمشق" (33 /18) .
ثانيا :
إذا عرفنا ذلك ، فلا شك أن سلامة المرء هي أن يؤثر الخمول والتواضع لربه ، ويترك السعي في طلب الشهرة والشرف ، حتى لو كان ذلك في أمر مباح من أمور الدنيا .
روى مسلم (2965) عن عَامِر بْن سَعْدٍ قَالَ : كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ ، فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ : أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ : اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ ) .
قال النووي رحمه الله :
" ( الْخَفِيّ ) : الْخَامِل الْمُنْقَطِع إِلَى الْعِبَادَة وَالِاشْتِغَال بِأُمُورِ نَفْسه " انتهى .
وقال ابن الجوزي رحمه الله :
" الإشارة بالخفي إلى خمول الذكر ، والغالب على الخامل السلامة " .
انتهى من "كشف المشكل" (ص 167) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الخفي : هو الذي لا يظهر نفسه ، ولا يهتم أن يظهر عند الناس أو يشار إليه بالبنان أو يتحدث الناس عنه ، تجده من بيته إلى المسجد ، ومن مسجده إلى بيته ، ومن بيته إلى أقاربه وإخوانه ، يخفي نفسه " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (ص 629) .
قال الفضيل بن عياض رحمه الله : " إن قدرت أن لا تُعرف فافعل ، وما عليك ألا تعرف ؟ وما عليك ألا يثنى عليك ؟ وما عليك أن تكون مذموما عند الناس إذا كنت محمودا عند الله عز وجل ؟ " . انتهى من "التواضع والخمول" لأبي بكر القرشي (ص 43) .
ثالثا :
إذا قدر أن العبد طلب الخير ، من أمر الدين أو أمر الدنيا ، ثم وقعت له الشهرة دون طلب منه لها ، وسعي في سبيلها ؛ فلا حرج عليه في ذلك ، بل عليه أن يصحح نيته في طلب الخير ، ولا يبالي بما حصل له من الشهرة بعد ذلك ، إذا لم يكن له همة في طلبها ، ولم يتعلق قلبه بها ، فلا شك أن أئمة الناس في الدين والدنيا لا بد أن يحصل لهم من الشهرة بحسب حالهم ومقامهم ، وحاجة العباد إليهم ؛ فليس من الحكمة ولا من الشرع في شيء أن يترك نشر الخير الذي يطلب منه نشره ، إما وجوبا أو استحبابا ، لأجل خوف الشهرة ، أو لأجل أن من قام بهذا المقام سوف يشتهر بين الناس .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" إذا دار الأمر بين أن يلمع نفسه ويظهر نفسه ويبين نفسه ، وبين أن يخفيها ، فحينئذ يختار الخفاء ، أما إذا كان لابد من إظهار نفسه فلابد أن يظهرها وذلك عن طريق نشر علمه في الناس وإقامة دروس العلم وحلقاته في كل مكان ، وكذلك عن طريق الخطابة في يوم الجمعة والعيد وغير ذلك ، فهذا مما يحبه الله عز وجل " .
انتهى من "شرح رياض الصالحين" (ص 629)
رابعا :
إذا قدر أن العبد قد حصل له شيء من الشهرة ، إما في عمل غير مشروع ، كالغناء والتمثيل ، أو في عمل مشروع في أصله ، لكن نيته خالطها شيء من الفساد ، والحرص على الشهرة والشرف والرئاسة ؛ فالواجب عليه أن يترك ما كان يعمله من المحرمات ، من الغناء الماجن ، أو الموسيقى ، أو التمثيل ، أو نحو ذلك من المحرمات ، ثم ما حصل له من الشهرة من جراء ذلك ، سعى في تسخيرها في الخير ، فإذا كان يرى أن الناس ينظرون إليه ، أو يقتدون به ، فليكن قدوة لهم في الخير ، ونشر الحق والسنة ، والعلم النافع ، والعمل الصالح .
لكن عليه أن يجتهد في مراعاة قلبه ، وتصحيح نيته ، وأن يكون عمله ذلك لوجه ربه خالصا ، ونظر الناس إليه إنما هو أمر قدر عليه ، دون طلب منه ، وسعي ، والتفات قلب ، ومحبة منه لنظر الناس ، وحديثهم ، بل يسعى أن يجعل ذلك كله في ذات ربه ، ويعالج نيته ، ولا يغفل عنها .
قال سفيان الثوري رحمه الله : " ما عالجت شيئاً عليّ أشد من نيّتي، إنها تتقلب عليّ".
راجع جواب السؤال رقم : (145767) .
والله تعالى أعلم .