الحمد لله.
ثانياً:
إذا تحقق للمسلم أن المسألة التي تبناها والتزم بحكمها هي من مسائل الخلاف السائغ :
فينبغي له أن يعلم أموراً مهمة :
1. أنه ليس له أن يُنكر أو يعيب على مخالف .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - : " قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد –
أي : ابن حنبل - : هل ترى بأساً أن يصلي الرجل تطوعاً بعد العصر والشمس بيضاء
مرتفعة ؟ قال : لا نفعله ، ولا نعيب فاعله .
قال : وبه قال أبو حنيفة .
وهذا لا يدل على أن أحمد رأى جوازه ، بل رأى أن من فعله متأولاً ، أو مقلداً لمن
تأوله ، لا يُنكر عليه ، ولا يُعاب قوله ؛ لأن ذلك من موارد الاجتهاد السائغ "
انتهى من " فتح الباري " لابن رجب ( 4 / 127 ) .
2. ومن باب أولى أن لا يحكم على مخالفه بالجهل أو الضلال أو البدعة .
3. ومسائل الخلاف السائغ لا يجوز معها التناحر والافتراق والهجر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " مسائل الاجتهاد مَن عمل فيها بقول بعض
العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر ، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه " انتهى من "
مجموع الفتاوى " ( 20 / 207 ) .
وقال ابن القيم – رحمه الله - : " وهذا النوع من الاختلاف لا يوجب معاداةً ولا
افتراقاً في الكلمة ولا تبديداً للشمل ؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في
مسائل كثيرة من مسائل الفروع كالجد مع الإخوة وعتق أم الولد بموت سيدها " انتهى من
" الصواعق المرسلة " ( 2 / 517 ) .
4. في هذه المسائل يدور الأمر بين أجر واحد للمخطئ وأجرين للمصيب .
عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ
فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ) .
رواه البخاري ( 6919 ) ومسلم ( 1716 ) .
5. وكون المسألة من مسائل الخلاف السائغ لا يعني أنه يُمنع من التباحث العلمي فيها
، بل ما زال ذلك دأب أهل العلم ؛ أن يتباحثوا في مثل هذه المسائل ، ويصنفوا فيها ،
وينظروا في قول المخالف ، أو يردوه بما عندهم من دليل ؛ ومقصودهم من ذلك إصابة
الأجرين ، وهم يعلمون أن الحق في أحد الأقوال وكل واحد يسعى إلى إصابة الحق في
المسألة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - : " إن مثل هذه المسائل الاجتهادية لا
تنكر باليد وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها ؛ ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية
، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه ، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه "
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 30 / 80 ) .
ثالثاً:
بعد الذي سبق نقول :
1. إن مسألة " التصوير الفوتغرافي " هي في أصلها من " الخلاف السائغ " ؛ لأنها أمر
حادث ليس موجوداً من قبل فبالقطع ليس فيها نص من كتاب أو سنَّة أو إجماع ، ومحل
الخلاف هل تشملها نصوص السنَّة أو لا تشملها وهذا محل اجتهاد ، ولا شك ، ولذا فلا
عجب من وقوع الخلاف في المسألة بين العلماء المعاصرين .
وانظر ما كتبناه في حكم " التصوير الفوتغرافي " في جوابي السؤالين (
22660 ) و (
8954).
2. وأما مسألة " صلاة الجماعة " : فإن الأدلة على وجوبها ظاهرة بيِّنة في الكتاب
والسنَّة ، فقد أمر الله تعالى بالصلاة جماعة أثناء الجهاد ، وهمَّ النبي صلى الله
عليه وسلم أن يُحرِّق على من يصلي بيته ويترك جماعة المسجد ، كما أنه ثمة أقوال
للصحابة رضي الله عنهم تؤكِّد هذا الوجوب الذي ثبت بالسنَّة المشرَّفة ، كقول ابن
مسعود رضي الله تعالى في وجوب الصلاة جماعة في المسجد وأن من يتخلف عنها هو منافق
معلوم النفاق ، وهو قول التابعين المحققين .
قال ابن المنذر - رحمه الله - : " وفي اهتمامه بأن يحرِّق على قوم تخلَّفوا عن
الصلاة بيوتَهم أبين البيان على وجوب فرض الجماعة ؛ إذ غير جائز أن يحرق الرسول
الله صلى الله عليه وسلم من تخلف عن ندب وعما ليس بفرض " انتهى من " الأوسط " ( 4 /
134 ) .
ومع هذا فقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكم صلاة الجماعة على أربعة أقوال .
1. فمنهم من قال إنها فرض عين ، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وغيره من أئمة
السلف وفقهاء الحديث .
2. ومنهم من قال إنها فرض كفاية ، وهذا هو المرجح في مذهب الشافعي ، وهو قول بعض
أصحاب مالك ، وهو – أيضاً - قول في مذهب أحمد .
3. وطائفة ثالثة ذهبت إلى كونها سنَّة مؤكدة ، وهو قول أصحاب أبي حنيفة وأكثر أصحاب
مالك وكثير من أصحاب الشافعي ، ويذكر رواية عن أحمد .
4. وذهب بعض العلماء إلى أن صلاة الجماعة فرض عين وشرط في صحة الصلاة ، وهو قول
طائفة من قدماء أصحاب أحمد وطائفة من السلف ، واختاره ابن حزم ، ويذكر عن شيخ
الإسلام ابن تيمية في أحد قوليه .
وعليه : فمما ذكرناه من الاختلاف بين العلماء في حكم صلاة الجماعة يتبيَّن للباحث
أن الخلاف في وجوبها هو من الخلاف السائغ ، ونحن - في موقعنا - نرجح القول بوجوبها
، وقد ذكرنا الأدلة من القرآن والسنَّة على الوجوب وعززناها بأقوال أهل العلم في
أجوبة الأسئلة ( 120
) و ( 8918 ) و (
40113 ) .
3. وأما مسألة الإسبال : فقد قام الإجماع على حرمة من أسبل إزاره خيلاء ، وأما من
أسبل غير قاصد الخيلاء ، فالخلاف فيه - أيضا - معتبر بين العلماء بسبب اختلافهم هل
يُحمل المطلق من النصوص الثابتة بتحريم الإسبال على المقيَّد منها بالخيلاء ؟ وقد
ذهب أكثر العلماء إلى هذا فحملوا المطلق من الأحاديث في تحريم الإسبال إلى المقيد
منها بالخيلاء ولم يروا بأساً بالإسبال إذا خلا صاحبه من الخيلاء ، وخالفهم بعض
العلماء فلم يقيدوا المنع من الإسبال بالخيلاء بل جعلوا لكل واحد من الأمرين حكمه
وإثمه وعقوبته ، وهي من مسائل الفهم ، والخلاف فيها سائغ.
ولا يمنع – كما سبق أن ذكرنا – كون المسألة من مسائل الخلاف السائغ أن لا يبحثها
المسلم قاصداً تحري الأجرين ، ونحن في موقعنا تبنينا الحكم بتحريم الإسبال مطلقاً
ولو لم يقصد المسبل الخيلاء .
وقد ذكرنا المسألة بأدلتها وبينَّا وجه قولنا بالتحريم المطلق للإسبال في أجوبة
الأسئلة ( 72858 )
و ( 102260 ) و (
111852 ) .
والله أعلم