الحمد لله.
روى البخاري (529) عَنْ
غَيْلَانَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى عَهْدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قِيلَ الصَّلَاةُ ؟ قَالَ أَلَيْسَ
ضَيَّعْتُمْ مَا ضَيَّعْتُمْ فِيهَا ؟
ثم رواه عقبه (530) عن الزُّهْرِيّ قال : دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
بِدِمَشْقَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكَ ؟ فَقَالَ : لاَ أَعْرِفُ
شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ إِلَّا هَذِهِ الصَّلاَةَ ، وَهَذِهِ الصَّلاَةُ قَدْ
ضُيِّعَتْ .
وبوب لهما البخاري :
" باب تضييع الصلاة عن وقتها " .
قال الحافظ ابن رجب رحمه
الله :
" إنما كان يبكي أنس بن مالك من تضييع الصلاة : إضاعة مواقيتها ، وقد جاء ذلك
مفسراً عنه فروى سليمان بن المغيرة عن ثابت قال : قال أنس : ما أعرف فيكم اليوم
شيئاً كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس قولكم : لا إله إلا
الله [ يعني: إلا قولكم ..] .
قلت : يا أبا حمزة ، الصلاة ؟ قال : قد صليتم حين تغرب الشمس ، أفكانت تلك صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ خرجه الإمام أحمد .
ورواه حماد بن سلمة ، أن ثابتاً أخبره ، قال : قال أنس : ما شيء شهدته على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، إلا وقد أنكرته اليوم ، إلا شهادتكم هذه . فقيل : ولا
الصلاة ؟ فقال : إنكم تصلون الظهر مع المغرب ، أهكذا كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يصلي ؟ .
وهذا استفهام إنكار من أنس ، يعني : أن هذه لم تكن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم .
وخرج الإمام أحمد من حديث
عثمان بن سعد ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : ما أعرف شيئاً مما عهدت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم اليوم . قيل له : ولا الصلاة ؟ قال : أوليس قد علمت ما صنع
الحجاج في الصلاة ؟
ويقال : إن الحجاج هو أول من أخر الصلاة عن وقتها بالكلية ، فكان يصلي الظهر والعصر
مع غروب الشمس ، وربما كان يصلي الجمعة عند غروب الشمس ، فتفوت الناس صلاة العصر ،
فكان بعض التابعين يومئ في المسجد الظهر والعصر خوفا من الحجاج " انتهى .
"فتح الباري" ـ لابن رجب (3 /56-57)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه
الله :
" قَوْله ( قِيلَ الصَّلَاة ) أَيْ : قِيلِ لَهُ الصَّلَاة هِيَ شَيْء مِمَّا كَانَ
عَلَى عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ ؛ فَكَيْفَ
يَصِحُّ هَذَا السَّلْب الْعَامّ ؟
فَأَجَابَ بِأَنَّهُمْ غَيَّرُوهَا أَيْضًا بِأَنْ أَخْرَجُوهَا عَنْ الْوَقْتِ ...
وَرَوَى اِبْن سَعْد فِي الطَّبَقَاتِ سَبَب قَوْلِ أَنَسٍ هَذَا الْقَوْل ,
فَأَخْرَجَ عن ثابت الْبُنَانِيّ قَالَ : كُنَّا مَعَ أَنَس بْن مَالِك , فَأَخَّرَ
الْحَجَّاج الصَّلَاةَ , فَقَامَ أَنَس يُرِيدُ أَنْ يُكَلِّمَهُ ُ ، فَنَهَاهُ
إِخْوَانُهُ شَفَقَة عَلَيْهِ مِنْهُ , فَخَرَجَ فَرَكِبَ دَابَّتَهُ فَقَالَ فِي
مَسِيرِهِ ذَلِكَ " وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا كُنَّا عَلَيْهِ عَلَى
عَهْدِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا شَهَادَة أَنْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّه " . فَقَالَ رَجُل : فَالصَّلَاةُ يَا أَبَا حَمْزَة ؟ قَالَ
" قَدْ جَعَلْتُمْ الظُّهْرَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ ُ أَفَتِلْكَ كَانَتْ صَلَاة
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ " انتهى .
وروى البخاري (724) عَنْ
بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدِمَ
الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ : مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَالَ مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا
أَنَّكُمْ لَا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" هَذَا الْإِنْكَار غَيْر الْإِنْكَارِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْره فِي " بَاب
تَضْيِيع الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا " حَيْثُ قَالَ " لَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا
كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا
اَلصَّلَاةَ ، وَقَدْ ضُيِّعَتْ " ؛ فَإِنَّ ذَاكَ كَانَ بِالشَّامِ ، وَهَذَا
بِالْمَدِينَةِ , وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ كَانُوا فِي
ذَلِكَ الزَّمَانِ أَمْثَلَ مِنْ غَيْرِهِمْ فِي التَّمَسُّكِ بِالسُّنَنِ " انتهى
.
فتضييع الصلاة الذي قصده أنس
رضي الله عنه إنما عنى به ما أحدثه بعض الأمراء من تأخير الصلاة عن وقتها ، وهذا إضاعة
لها ؛ كما قال تعالى : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ
وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا )
مريم/ 59، 60
قال ابن مسعود والقاسم بن مخيمرة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أئمة السلف : أضاعوا
وقت الصلاة . راجع "تفسير ابن كثير" (5/243)
ولا يعني أنس رضي الله عنه
أن الصلاة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غيّر الناس من هيئتها في قيامها أو
ركوعها أو سجودها ، حتى صارت على غير الهيئة التي كانوا عليها زمان رسول الله صلى
الله عليه وسلم .
وصفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم محفوظة في كتب السنة ، وفي كتب أهل العلم ، وما
زال أهل العلم والسنة يعتنون بضبطها ، وتعليمها للناس ، وإرشادهم إليها ، وبيان ما
قد يقع في صلاة الناس من الخطأ ، أو البدعة ، أو الخروج عن الهدي الكامل في سنة
النبي صلى الله عليه وسلم .
والله تعالى أعلم .