يشكو من عزوف الناس عنه وعدم رغبتهم في مصاحبته
أنا شاب عمري22 سنة ، متدين ، وأحفظ القرآن ، وشكلي مقبول وطبعي سهل لين ، ولكن مشكلتي هي عزوف الناس عني ، لا أكاد أجد صديقا ، حتى بين رواد المسجد وحفظة القران ، وكلما حاولت إقامة علاقة مع أحد منهم أجد الصد والإعراض ، ولا يوجد سبب معين ، فليس بيني وبينهم أي خصومة ، ولكني أجد أني قد لا أكون جذابا بما فيه الكفاية ، بالنسبة لهم أجد نفسي في عزلة قاتلة ، لا أكاد أجد صديقا ، في حياتي الجامعية 4 سنوات لم أستطع تكوين صديق واحد ، معظم غمي في الجامعة من انعدام الأصدقاء ، وكلما حاولت في الصداقة جوبهت بكسر الخاطر والإعراض ، أفيدوني جزاكم الله خيرا .
الجواب
الحمد لله.
لا داعي للقلق والحيرة والمزيد من الإحباط والحساسية المفرطة ، فالأمر سهل وليس كما
تظنه ، والإنسان اجتماعي بطبعه ، والذي يحصل أحيانا عدم التوافق في الطبائع
والأخلاق ، فقد يتعارف اثنان ، وبعد التعارف يختلفان فيفترقان لعدم حصول ذاك
الانسجام الذي يحدثه التقارب في الأخلاق أو الأفكار ونحو ذلك .
ولعلك إذا أخذت بنصيحتنا في هذا الأمر انتفعت بإذن الله .
ومشكلتك تتلخص في تصورك أنها مشكلة متجذرة عويصة ، فإذا عارضت ذلك بالمحاولة فظهر
لك إعراض الناس انطبع في نفسك لأول وهلة أنك قد فشلت ، فيحصل لك من اليأس والإحباط
ما يؤكد في نفسك هذا التصور ، ثم تأتي المحاولة التي تليها ، فيحصل ما حصل في
الأولى ، فيزداد يقينك بأنك إنسان يرفضه المجتمع ولا يقبله الناس ، وكل ذلك غير
صحيح .
وتصور رفض المجتمع التام لرجل حافظ للقرآن وعلى خلق ولين الجانب تصور غير مقبول
شرعا وعقلا وعرفا .
فإن طبائع الناس مجبولة على محبة الخير وبسطة الوجه ولين الكلام وحسن الخلق .
قال ابن عمر رضي الله عنهما : " البر شيء هين وجه طليق وكلام لين " .
انتهى من "شعب الإيمان" (8059) .
وقال عروة ابن الزبير رحمه الله :
" مكتوب في الحكمة : لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسطا تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم
العطاء " انتهى من "حلية الأولياء" (2/178) .
إنما تؤتى من قبل توهمك المتزايد مع كل محاولة تفشل فيها فتيأس للوهلة الأولى ، فلا
تعطي نفسك الفرصة للصبر والتهيؤ لمعالجة ما عسى أن يكون هو السبب الحقيقي لهذا
الإعراض ، لكنك لا تبحث عن ذلك ولا تتدبره ، ثم تلتفت إلى تلك القناعة المتوهمة .
فننصحك بما يلي :
أولا : انس الفائت كله تماما ، جملة وتفصيلا ، كأنه لم يكن .
ثانيا : استقبل أيامك ومواقفك مع الناس بالتفاؤل والأمل وحسن الظن بالله .
ثالثا : ليكن الأصل في التعامل مع الناس حسن الظن بكل ما يقع منهم ، ولا تلتفت إلى
ما قد يطرأ من وساوس وظنون .
عن عمر بن عبد العزيز قال : " يا بني إذا سمعت كلمة من مسلم فاحملها على أحسن ما
تجد حتى لا تجد محملا " انتهى من "مداراة الناس" (ص 48) .
رابعًا : ابتعد تماما عن الحساسية المفرطة وكثرة التفكير وخاصة في الأمور العارضة ،
واحمل الوقائع غير المستحسنة من الناس على محمل ( لعل ، ولعل ) .
عن أبي قلابة قال :
" التمس لأخيك العذر بجهدك ، فإن لم تجد له عذرا فقل : لعل لأخي عذرا لا أعلمه " .
انتهى من "مداراة الناس" (ص 48) .
خامساً : ابتعد عن الانطوائية ، وأقبل على الناس برحابة صدر .
سادساً : لا تعامل الناس على سبيل التجربة ، ولكن من منطلق العقل والحكمة ، والحرص
على التقرب منهم والتودد إليهم ، وفي سبيل ذلك احتمل أذاهم ، ومن أعرض منهم أقبل
عليه ، ومن أساء منهم اعف عنه ، ومن جهل منهم احلم عليه .
سابعاً : ليكن تعرفك بالناس من منطلق الدعوة والأخوة الإسلامية ، فاحرص ما أمكنك
على أن يكون تعرفك بالناس لغرض شرعي من أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو نصيحة أو
تحقيق مصلحة ونحو ذلك .
ثامناً : لا تهمل مع ذلك الجوانب الترفيهية مع الناس ، فاخرج معهم للتنزه والتفسح ،
وخالطهم في أحاديثهم ومحاوراتهم .
تاسعا : لا تصاحب إلا ذا دين وخلق ؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ ) رواه
الترمذي (2395) وحسنه الألباني في "صحيح الترمذي" .
عاشراً : أكثر من التبسم ، فإنه من أحسن الخلق ؛ وقد روى الترمذي (3574) وحسنه عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ قَالَ : " مَا رَأَيْتُ أَحَدًا
أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
وصححه الألباني في "صحيح الترمذي" .
وروى مسلم (4760) عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ
تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ ) .
حادي عشر : إذا ساءك موقف من المواقف فابحث عن سبب حصوله ولو بسؤال صاحب الموقف معك
، وناقشه في ذلك ، وحاول أن تتوصل بالبرهان إلى مكمن العلة ، وإياك أن تستسلم
معتقدا أن هذا هو الأمر الطبيعي مع الناس : عزوفهم عني .
ثاني عشر : أين أنت من مؤانسة القرآن ومدارسة السنة وسير السلف وكيف كان صبرهم على
أذى الناس ؟ أين أنت من العلاج الشرعي للهم والغم بالقرآن والدعاء والأذكار ؟ أين
أنت من التعلق بالمساجد وكثرة التردد عليها ؟ أين أنت من قيام الليل ودعاء السحر ؟
كل ذلك جدير بالذهاب بهذا الهم الجاثم وهذه الكروب المتناوبة على قلبك .
وفي كتاب "مداراة الناس" لابن أبي الدنيا رحمه الله مجموعة صالحة من الآثار عن
السلف تتعلق بهذه المسألة ، فننصحك باقتنائه والنظر فيه .
ومما جاء فيه ما رواه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : " من يتبع نفسه كل ما يرى
في الناس يطل حزنه ولا يشف غيظه "
وعن عبد الوهاب بن الورد قال : " جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال : إني قد حدثت نفسي
أن لا أخالط الناس فما ترى ؟ قال : لا تفعل إنه لا بد للناس منك ، ولا بد لك منهم ،
لك إليهم حوائج ، ولهم إليك حوائج ، ولكن كن فيهم أصم سميعا ، أعمى بصيرا ، سَكوتا
نطوقا " .
وعن أيوب السختياني قال : " لا ينبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان : العفة عما في أيدي
الناس ، والتجاوز عما يكون منهم " انتهى من "مداراة الناس" (ص 40- 46) .
راجع جواب السؤال رقم : (47026)
والله تعالى أعلم .