الحمد لله.
عند اجتماع المصالح والمفاسد في الحالة الواحدة فإن فقه الموازنة بينهما في قسمة
العقل لا يخرج عن ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن تكون المصلحة هي الراجحة فتقدَّم ، وتحتمل المفسدة الأدنى ، في
سبيل تحصيل المصلحة الأعظم ، ومن أمثلته جواز التلفظ بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب
بالإيمان في حالة الإكراه ، وذلك تقديما لمصلحة حفظ الروح على مفسدة الكفر اللساني
.
ولا يخفى أن تقرير كون المصلحة أرجح وأعظم من المفسدة في هذه الحالة ، من المباحث
الدقيقة التي تقتضي كثيراً من التأني والتأمل في الأدلة الشرعية ، ومن ذلك مراعاة
تعلق المصلحة أو المفسدة بالضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات ، واعتبار هذه
المستويات أثناء المقارنة الترجيحية بينهما ، وإلا وقع الخطأ والخلل ، واضطربت
القواعد بسبب الإجمال .
وهذا يدل على أن تقديم المصالح على المفاسد يدخل في جميع الدرجات : الضرورية
والحاجية والتحسينية ؛ إذ ليس ثمة ما يمنع من انطباق القاعدة على التحسينيات .
ولما قرر العز بن عبد السلام رحمه الله هذه القاعدة قسم المصلحة التي ترجح على
المفسدة إلى أقسام ، فقال : " وهذه المصالح أقسام : أحدها ما يباح . والثاني : ما
يجب لعظم مصلحته . والثالث : ما يستحب لزيادة مصلحته على مصلحة المباح . والرابع :
مختلف فيه " انتهى.
فتأمل كيف أدخل المصالح المباحة تحت هذه القاعدة ، وهي مصالح تحسينية ، ومؤكد أنه
لن يتم تقديم مصلحة تحسينية على مفسدة تتعلق بالضروريات ، بل لا بد من مراعاة
اندراجها تحت ميزان واحد .
وأمثلة المنافع الضرورية أو الحاجية توسع بذكرها العز بن عبد السلام رحمه الله في
كتابه الفذ : " قواعد الأحكام في مصالح الأنام "، يمكن مراجعته لمن أراد التوسع .
وأما أمثلة ترجيح المصلحة على المفسدة في بعض القضايا التحسينية أو التكميلية فهي
قليلة ، ولكنها موجودة ، منها على سبيل المثال :
أولا :
ما ذكره العلماء في شرح حديث ذهاب ابن عمر إلى سرادق الحجاج في الحج وقوله له : (
الرواح إن كنت تريد السنة ) رواه البخاري (1660) وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر : "
فيه احتمال المفسدة الخفيفة لتحصيل المصلحة الكبيرة ، يؤخذ ذلك من مضي ابن عمر إلى
الحجاج وتعليمه " انتهى من " فتح الباري " (3/512) .
ثانياً : من الأمثلة التي ذكرها العز بن عبد السلام ، ونراها تنطبق على سؤال السائل
، قوله رحمه الله : " هجرة المسلم محرمة لما فيها من المفسدة ، لكنها جازت في ثلاثة
أيام دفعا للمشقة عن المحرج الغضبان ... والحجر على المرضى فيما زاد على الثلث
مفسدة في حقهم ، لكنه ثبت نظرا لمصلحة الورثة في سلامة الثلثين لهم ، كما ثبت تقديم
حقه في الثلث على حقوقهم " انتهى باختصار من " قواعد الأحكام " (1/104) .
الحالة الثانية : أن تكون المفسدة هي الراجحة ، وأعظم من المصلحة ، فدرؤها مقدم على
جلب المصلحة ، كمن خير بين مصلحة المال ومفسدة قتل النفس ، فلا شك أن الأولى أن
يضحي بالمال لأجل درء القتل .
يقول العز بن عبد السلام رحمه الله :
" فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة : درأنا المفسدة ، ولا نبالي بفوات المصلحة ،
قال الله تعالى : ( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس
وإثمهما أكبر من نفعهما ) البقرة/ 219 ، حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما " .
انتهى من " قواعد الأحكام " (1/98) .
الحالة الثالثة : أن تستوي المصلحة والمفسدة ، فهنا يأتي محل القاعدة المشهورة "
درء المفاسد مقدم على جلب المصالح "، هذا مع العلم أن هذه الحالة الثالثة محل نزاع
بين العلماء ، فقد أنكر كثير منهم وقوعها ، وقالوا من المتعذر الحكم بتساوي المصالح
والمفاسد في إحدى الحالات ، بل لا بد من تأثير إحدى المرجحات لتنقل الحالة إلى
الصورة الأولى أو الثانية .
يقول الإمام السبكي رحمه الله :
" درء المفاسد أولى من جلب المصالح . ويستثنى مسائل ، يرجع حاصل مجموعها إلى أن
المصلحة إذا عظم وقوعها ، وكان وقع المفسدة [أخف] : كانت المصلحة أولى بالاعتبار .
ويظهر بذلك أن درء المفاسد ؛ إنما يترجح على جلب المصالح إذا استويا ".
انتهى من " الأشباه والنظائر
" (1/105).
ويقول الأمير الصنعاني رحمه الله :
" دفع المفاسد أهم من جلب المصالح عند المساواة " انتهى من " إجابة السائل "
(ص/198) .
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله :
" عند التكافؤ فدرء المفاسد أولى من جلب المصالح " .
انتهى من " رسالة لطيفة جامعة في أصول الفقه المهمة " (ص/104) .
والله أعلم .