الحمد لله.
ويتميز هذا النور ، نور الوحي الإلهي ، بأنه جزم وحق ويقين ، لا تعتريه الظنون ، ولا تخالطه الشكوك والأوهام ، بل هو حبل مباشر بين الله عز وجل وبين رسوله أو نبيه ، يصل أهل الأرض بالسماء ، ويخترق قيود البشرية التي لا يتمكن العقل من التخلص منها إلى عالم الغيب ، وإلى نزر يسير من علم الله سبحانه وتعالى ، فكان هذا النور سبب تصحيح مسيرة البشرية التي اجتالتها الشياطين عن مسيرة التوحيد ، وعن مسيرة القسط والعدل في الأعمال والأخلاق ، وختمت تلك الأنوار بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ ولذلك لما دخل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على أم أيمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بَكَت ، ( فَقَالَا لَهَا : مَا يُبْكِيكِ ؟ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَقَالَتْ : مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ مِنَ السَّمَاءِ ، فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ . فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا ) رواه مسلم (2454) .
القسم الثاني :
نور الآيات والأمارات التي يُذَكِّرُ الله عز وجل بها عباده ، ويقذفها في قلوبهم أو
فيما حولهم من التصريف والتدبير والخلق ، توقظ فيهم روح التفكر والتدبر ، وتنشرهم
من عالم الغفلة إلى عالم الحضور والشهود ، ولكن الناس يتفاوتون في فهمها ، فمنهم من
تبلغه رسالتها ، وتحقق فيه مقصودها ، ومنهم من تكون سببا في غوايته وضلاله ، أو
يبقى في غفلته . قال تعالى : ( قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ )
يونس/101. ويقول سبحانه : ( وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) النور/18.
وبهذا المعنى يمكن أن نسمي
تلك الآيات " خطابا " من الله لعباده كما ورد في السؤال ، ولكن على سبيل التجوز،
والمسامحة في العبارة ، وقد " روي عن ابن عباس ، وعكرمة ، وأبي جعفر الباقر ،
وقتادة ، وسفيان بن عيينة أنهم قالوا في قوله تعالى : ( وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ )
فاطر/37 ، يعني : الشيب " ينظر " تفسير القرآن العظيم " لابن كثير (6/ 556) .
فانظر كيف اعتبروا الشيب نذيرا لبني آدم ، والنذارة بمعنى " الخطاب " .
ولكنها آيات أو أمارات : الحكمة منها تقويم طريق المسير إلى الله سبحانه وتعالى ، وتذكير النفس بضرورة المحاسبة والمراجعة ، لتنظر في موقف الحساب بين يدي ربها عز وجل ، فتستعد لذلك اليوم العسير ، وليست لتحقيق شهوات الدنيا وملذاتها ، أو الهداية في اختياراتها ، وما يتيسر للإنسان فيها . فالنور الإلهي إنما يرد للهداية للسعادة الحقيقية ، سعادة الآخرة ، وليس لسعادة الدنيا الفانية .
وبناء على ذلك فنحن نقول :
إننا لا نعرف علامات وأمارات خاصة ، ترشد الإنسان إلى صحة اختياراته الحياتية
اليومية ، من مسكن ومأكل وملبس وزواج ونحوها ، إلا علامة واحدة فقط ، وهي إذا راقب
حكم الله تعالى ، وراقب نيته ومقصده يريد تحقيق رضوان الله تعالى في جميع ذلك ، إلى
جانب الاستقامة على الشريعة ، فحينئذ يمكننا أن نجعل ذلك علامة وأمارة على أن الله
عز وجل أراد بك الخير ، حتى لو تعسر ذلك المسعى المعاشي أو تأخر ، فما دمت تحتسب
نيتك عند الله ، وتصبر ، وتستقيم على شرع الله ، فكل شيء يريده الله بك في هذه
الحياة الدنيا هو خير لك بإذن الله ، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عَجَبًا
لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ
إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ،
وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) رواه مسلم (2999) .
كما قال بعض الحكماء : " إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَك عِنْدَهُ فَانْظُرْ
فِيمَا يُقِيمُك " انتهى من " بريقة محمودية " (3/ 85) .
ولهذا فنصيحتنا لك أن لا تطيل التفكير في مراد الله من محطات الحياة التي تعيش ، إن
كانت محطات خير أم محطات فتنة وشر عند الله سبحانه ، فالله عز وجل لم يكلفنا التأمل
في حقيقة ما قضى وقدر ، وإنما ننصحك بالاشتغال في الوقوف عند حدود الله في كل محطة
، وفي كل تجربة لك في هذه الدنيا ، وأن تحتسب أجرك عند الله فيها ، وتسخرها لتكون
محطة خير للإنسانية ، ونفع للبشرية ، وتحقيق لعبودية الله عز وجل . فإذا راعيت ذلك
وحرصت عليه ، فاعلم أن كل شيء في هذه الدنيا ينقلب خيرا لك وفضلا ، حتى المصائب
والمحن ، وحتى الشرور والفتن ، تنقلب أجورا لك عظيمة ، وثوابا لك جزيلا ، ونعمة من
الله عليك لا تبلغ شكرها، وهكذا هو شأن المؤمن مع ربه عز وجل .
والله أعلم .