الحمد لله.
أولا :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد الناس ، فلم يجعل الله تعالى للدنيا موضعا في قلبه ولا منزلة في نفسه ، وقد روى أحمد (7120) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : " جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ فَقَالَ جِبْرِيلُ : إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ قَالَ : أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولًا ؟ قَالَ جِبْرِيلُ : تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ ، قَالَ ( بَلْ عَبْدًا رَسُولًا ) صححه الألباني في "الصحيحة" (1002) .
وروى البغوي في "شرح السنة" (5/442) عَنْ عَائِشَةَ ، قَالَتْ : " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كُلْ - جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ - مُتَّكِئًا ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكَ ، فَأَصْغَى بِرَأْسِهِ حَتَّى كَادَ أَنْ تُصِيبَ جَبْهَتُهُ الأَرْضَ وقَالَ : ( لا ، بَلْ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ ) .
صححه الألباني في "الصحيحة" (544) .
وأحاديث زهده وبعده عن زخرف الحياة الدنيا أكثر من أن تحصى .
راجع بسط ذلك وبيان زهده صلى الله عليه وسلم في إجابة السؤال رقم (154864) .
ثانيا :
كانت حال غالب أصحابه صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام هكذا على مثل حاله صلى الله عليه وسلم ، أو قريبا منها ؛ يوضحه ما رواه البخاري (4242) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : " لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قُلْنَا : الْآنَ نَشْبَعُ مِنْ التَّمْرِ " .
قال الحافظ رحمه الله :
" فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا قَبْل فَتْحِهَا فِي قِلَّةٍ مِنْ الْعَيْشِ " انتهى .
وقال - رحمه الله - أيضا :
" وَالْحَقّ أَنَّ الْكَثِير مِنْهُمْ كَانُوا فِي حَال ضِيق قَبْل الْهِجْرَة حَيْثُ كَانُوا بِمَكَّة , ثُمَّ لَمَّا هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَة كَانَ أَكْثَرهمْ كَذَلِكَ ، فَوَاسَاهُمْ الْأَنْصَار بِالْمَنَازِلِ وَالْمَنَائِح , فَلَمَّا فُتِحَتْ لَهُمْ النَّضِير وَمَا بَعْدهَا رَدُّوا عَلَيْهِمْ مَنَائِحَهُمْ " انتهى .
ولما فتح الله عليهم انشغلوا بالإنفاق في الصدقات وتجهيز الجيوش وغير ذلك من أوجه البر ، فمنهم من كان يتصدق بماله كله ، ومنهم من كان يتصدق بشطر ماله ، ومنهم من كان يجهز الغزاة أو يخلفهم بماله بخير في أهليهم ، ولم تكن الدنيا من رغبتهم ، ولا خطرت لهم على بال ، وقد روى أحمد في "الزهد" (ص36) عن سعيد بن جبير قال : " كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه – وكان من أغنياء الصحابة - لا يُعرف من بين عبيده " .
ثالثا :
لا يظنّن ظان أن الصحابة كانوا لا يراعون هذه الحال التي كان عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغفلون عنه ، مع علمهم أنه لو شاء لدعا الله تعالى فأغناه كل الغنى ، بل إنهم رضي الله عنهم كانوا يواسونه بالمنائح والهدايا والضيافة ، وخاصة الأنصار ؛ فروى البخاري (2567) ومسلم (2972) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ : " ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثُمَّ الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَارٌ ، فَقُلْتُ : يَا خَالَةُ مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ ؟ قَالَتْ الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا " .
وروى البخاري (2574) ومسلم (2441) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ يَبْتَغُونَ بِهَا أَوْ يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ مَرْضَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " .
والأحاديث في ذلك كثيرة .
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها : " أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا بَقِيَ مِنْهَا ) ؟ قَالَتْ : مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا ، قَالَ : ( بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا !! ) .
رواه أحمد (2372) والترمذي (2470) وصححه الألباني في " مشكاة المصابيح " رقم (1919) .
وقد اقتدى به أهل بيته الشريف ، صلى الله عليه وسلم ، في ذلك ، حتى إنهم نسوا حظوظ أنفسهم من مثل ذلك ، في جانب ما يعطون الناس ، ويؤثرون على أنفسهم :
عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ : " أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بَعَثَ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ ، فَقَسَمَتْهَا حَتَّى لَمْ تَتْرُكْ مِنْهَا شَيْئًا ، فَقَالَتْ بَرِيرَةُ: أَنْتِ صَائِمَةٌ ، فَهَلَّا ابْتَعْتِ لَنَا بِدِرْهَمٍ لَحْمًا؟ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَوْ أَنِّي ذُكِّرْتُ لَفَعَلْتُ ".
رواه الحاكم في المستدرك (4/15) وسكت عن الذهبي في تلخيصه .
والله أعلم .