الحمد لله.
لا يظهر لنا أن لخطيب الجمعة أن ينزل عن المنبر أثناء خطبته ، أو أن يقطع الخطبة كي
يسجد للشكر على الصورة التي ذكر في السؤال ، وذلك للأسباب الآتية :
أولا
سجود الشكر إنما يستحب عند " هجوم نعمة " على حد تعبير الفقهاء ، يريدون بذلك أنها
نعمة جديدة طارئة يكرم الله بها المسلم بعد أن كانت متأخرة ، وما تستذكره في خطبتك
من نعم الله تعالى ومظاهر رحمته للإنسان هي نعم دائمة أو سابقة متجددة على الدوام ،
ولكنها ليست طارئة بعد أن لم تكن ، ولهذا لا يستحب سجود الشكر عندها .
يقول الخطيب الشربيني رحمه الله :
" تسن لهجوم ـ أي : حدوث نعمة ، كحدوث ولد ، أو جاه ، أو مال ، أو قدوم غائب ، أو
نصر على عدو ، أو اندفاع نقمة ، كنجاة من حريق ، أو غرق ؛ لما روى أبو داود وغيره :
( أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا جاءه أمر يسره خر ساجدا ، وخرج بالحدوث الاستمرار
، كالعافية والإسلام والغنى عن الناس ؛ لأن ذلك يؤدي إلى استغراق العمر في السجود ،
وقيد في ( التنبيه والمهذب ونقله المصنف في شرحه عن الشافعي والأصحاب) النعمة
والنقمة بكونهما ظاهرتين ، ليخرج الباطنتين ، كالمعرفة وستر المساوئ ، وقيدهما في (
أصل الروضة وفي المحرر ) بقوله تعالى : ( من حيث لا يحتسب )الطلاق/ 3 أي يدري ، قال
في المهمات : وفيه نظر ، وإطلاق الأصحاب يقتضي عدم الفرق بين أن يتسبب فيه وأن لا ،
ولهذا لم يذكره في المجموع ـ وهذا أوجه ؛ ولهذا أسقطه ابن المقري من أصله " انتهى
من " مغني المحتاج " (1/447) ، وانظر " تحفة المحتاج " (2/216) .
ويقول البهوتي الحنبلي رحمه الله :
" تستحب سجدة الشكر عند تجدد نعمة ظاهرة ، أو دفع نقمة ظاهرة عامتين له وللناس ، أو
في أمر يخصه نصا ، كتجدد ولد أو مال أو جاه ، أو نصرة على عدو ، وإن لم تشترط في
النعمة الظهور فنعم الله في كل وقت لا تحصى ، والعقلاء يهنئون بالسلامة من العارض ،
ولا يفعلونه في كل ساعة " انتهى من " كشاف القناع " (1/449-450) .
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" عند تجدد النعم ، أي : عند النعمة الجديدة ، احترازا من النعمة المستمرة ،
فالنعمة المستمرة لو قلنا للإنسان إنه يستحب أن يسجد لها لكان الإنسان دائما في
سجود ، لأن الله يقول : ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) إبراهيم/ 34 ، والنعمة
المستمرة دائما مع الإنسان ، فسلامة السمع ، وسلامة البصر ، وسلامة النطق ، وسلامة
الجسم ، كل هذا من النعم ، والتنفس من النعم وغير ذلك ، ولم ترد السنة بالسجود لمثل
ذلك " انتهى من " الشرح الممتع " (4/105) .
ثانيا
الذي يظهر أيضا ، أنه لو كانت النعمة حادثة جديدة ، فلا ينبغي سجود الشكر لها على
المنبر ، كما نص الفقهاء على منع سجود الشكر في الصلاة ، وقالوا إنها لا تقاس على
جواز سجود التلاوة في كل منهما ، وذلك لعدم ورود سجود الشكر في الصلاة أو على
المنبر عن النبي صلى الله عليه وسلم .
ولما احتج بعض العلماء – خاصة المالكية – على عدم مشروعية سجود الشكر كله ، بحديث
أنس بن مالك رضي الله عنه : "حين جاء رجل واشتكى للنبي صلى الله عليه وسلم وهو على
المنبر القحط قال : ( فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً ،
فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ
الجِبَالِ ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ المَطَرَ
يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) رواه البخاري في "
صحيحه " (933) ومسلم في " صحيحه " (897) قالوا : فلم يسجد عليه الصلاة والسلام
للشكر رغم تجدد النعمة في هذا الموقف .
أجاب عن ذلك الإمام النووي رحمه الله بقوله :
" الجواب عن حديثهم أنه ترك السجود في بعض الأحوال بيانا للجواز ، أو لأنه كان على
المنبر وفي السجود حينئذ مشقة ، أو اكتفى بسجود الصلاة ، والجواب بأحد هذه الأوجه
أو غيرها متعين للجمع بين الأدلة " انتهى من " المجموع " (4/70) .
فعدم ورود سجود الشكر على
المنبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، رغم تجدد نعمة حادثة في ذلك الوقت ، مما يغلب
جانب الحظر في فعل ذلك الخطيب ، وهو في هذه الحال .
والواقع أنه هذا الفعل مظنة لوقوع صاحبه في إحداث أمر لم يكن ؛ فلا هو مما جرت به
السنة ، ولا هو مما عمل به السلف ، ولا جرت عادة الناس به ، ومثل هذا أقرب للبدعة
منه إلى السنة ، وأدنى للشهرة والحديث وإشارة الناس إلى صاحبه ، منه إلى خشوع
العبادة وخفائها .
وللوقوف على مزيد من أحكام سجود الشكر ، يمكنك مراجعة الجواب رقم : (140804)
.
والله أعلم .