الحمد لله.
ثانيا :
الحديث المروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : " أتاني رسول الله صلى الله عليه
وسلم في غير يومي فدق ، فسمعت الدق ، ثم خرجت ، ففتحت له . فقال: ( ما كنت تسمعين
الدقَّ ؟ ) ، قلت : بلى ، ولكنني أحببت أن يعلم النساء أنك أتيتني في غير يومي " .
فهذا الحديث ذكره الذهبي في " سير أعلام النبلاء " (2/174) من طريق أحمد بن عبيد
الله النرسي : حدثنا يحيى الخواص ، حدثنا محاضر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن
عائشة به .
وهذا إسناد ضعيف لا تقوم به
حجة .
قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط - رحمه الله - في تعليقه على " السير " :
" يحيى الخواص : لم أقف له على ترجمة ، ومحاضر هو ابن المورع ، قال أبو حاتم فيه :
ليس بالمتين ، وقال الإمام أحمد : كان مغفلا جدا " انتهى .
فمثل هذا لا يعول عليه ولا يحتج به .
ثالثا :
أما الحديث الآخر : فقد رواه مسلم (1462) عن أنس رضي الله عنه ، قال : " كَانَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعُ نِسْوَةٍ فَكَانَ إِذَا
قَسَمَ بَيْنَهُنَّ لَا يَنْتَهِي إِلَى الْمَرْأَةِ الْأُولَى إِلَّا فِي تِسْعٍ ،
فَكُنَّ يَجْتَمِعْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا ، فَكَانَ فِي
بَيْتِ عَائِشَةَ فَجَاءَتْ زَيْنَبُ فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقَالَتْ : هَذِهِ
زَيْنَبُ . فَكَفَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ ،
فَتَقَاوَلَتَا حَتَّى اسْتَخَبَتَا [ مِنْ السَّخَب ، وَهُوَ اِخْتِلَاط
الْأَصْوَات وَارْتِفَاعهَا ] ، وَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ ، فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ
عَلَى ذَلِكَ فَسَمِعَ أَصْوَاتَهُمَا ، فَقَالَ : اخْرُجْ يَا رَسُولَ اللَّهِ
إِلَى الصَّلَاةِ وَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ . فَخَرَجَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : الْآنَ يَقْضِي
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ ، فَيَجِيءُ أَبُو بَكْرٍ
، فَيَفْعَلُ بِي وَيَفْعَلُ .
فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ ، أَتَاهَا
أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهَا قَوْلًا شَدِيدًا ، وَقَالَ : أَتَصْنَعِينَ هَذَا ؟! "
.
قال النووي رحمه الله :
" وهَذَا الِاجْتِمَاع كَانَ بِرِضَاهُنَّ " .
" وَأَمَّا مَدّ يَده إِلَى زَيْنَب وَقَوْل عَائِشَة : ( هَذِهِ زَيْنَب ) فَقِيلَ
: إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَمْدًا ، بَلْ ظَنَّهَا عَائِشَة صَاحِبَة النَّوْبَة ،
لِأَنَّهُ كَانَ فِي اللَّيْل وَلَيْسَ فِي الْبُيُوت مَصَابِيح . وَقِيلَ : كَانَ
مِثْل هَذَا بِرِضَاهُنَّ "
" وفِي هَذَا الْحَدِيث : مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ حُسْن الْخُلُق وَمُلَاطَفَة الْجَمِيع " .
رابعا :
روى البخاري (2581) ، ومسلم (2442) عن عائشة رضي الله عنها قالت : " أَرْسَلَ
أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ مُضْطَجِعٌ مَعِي فِي
مِرْطِي ، فَأَذِنَ لَهَا فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ أَزْوَاجَكَ
أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ ؟
وَأَنَا سَاكِتَةٌ .
قَالَتْ : فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (
أَيْ بُنَيَّةُ ، أَلَسْتِ تُحِبِّينَ مَا أُحِبُّ ؟) .
فَقَالَتْ بَلَى !!
قَالَ : ( فَأَحِبِّي هَذِهِ ) .
قَالَتْ : فَقَامَتْ فَاطِمَةُ حِينَ سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَجَعَتْ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُنَّ بِالَّذِي قَالَتْ وَبِالَّذِي قَالَ لَهَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْنَ لَهَا : مَا نُرَاكِ
أَغْنَيْتِ عَنَّا مِنْ شَيْءٍ ، فَارْجِعِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُولِي لَهُ إِنَّ أَزْوَاجَكَ يَنْشُدْنَكَ الْعَدْلَ فِي
ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ .
فَقَالَتْ فَاطِمَةُ : وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ فِيهَا أَبَدًا .
قَالَتْ عَائِشَةُ : فَأَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْهُنَّ فِي الْمَنْزِلَةِ
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ أَرَ امْرَأَةً
قَطُّ خَيْرًا فِي الدِّينِ مِنْ زَيْنَبَ ، وَأَتْقَى لِلَّهِ ، وَأَصْدَقَ
حَدِيثًا ، وَأَوْصَلَ لِلرَّحِمِ ، وَأَعْظَمَ صَدَقَةً ، وَأَشَدَّ ابْتِذَالًا
لِنَفْسِهَا فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَصَدَّقُ بِهِ وَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ
تَعَالَى ، مَا عَدَا سَوْرَةً مِنْ حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهَا ، تُسْرِعُ مِنْهَا
الْفَيْئَةَ !!
قَالَتْ : فَاسْتَأْذَنَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَائِشَةَ
فِي مِرْطِهَا ، عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا وَهُوَ
بِهَا ، فَأَذِنَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَكَ أَرْسَلْنَنِي إِلَيْكَ ،
يَسْأَلْنَكَ الْعَدْلَ فِي ابْنَةِ أَبِي قُحَافَةَ .
قَالَتْ : ثُمَّ وَقَعَتْ بِي ، فَاسْتَطَالَتْ عَلَيَّ ، وَأَنَا أَرْقُبُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَرْقُبُ طَرْفَهُ : هَلْ يَأْذَنُ
لِي فِيهَا ؟
قَالَتْ : فَلَمْ تَبْرَحْ زَيْنَبُ حَتَّى عَرَفْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَكْرَهُ أَنْ أَنْتَصِرَ .
قَالَتْ : فَلَمَّا وَقَعْتُ بِهَا ، لَمْ أَنْشَبْهَا حَتَّى أَنْحَيْتُ عَلَيْهَا
.
قَالَتْ : فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
وَتَبَسَّمَ : ( إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ) !! " .
فقول السائلة : لماذا وقف
الرسول عليه الصلاة والسلام بصف السيدة عائشة بدلا من أن يطيب خاطر نسائه ؟
فالجواب : لأنها لم تفعل شيئا ، ولم تحدث حدثا ، فهو في بيتها وفي مرطها في يومها ،
وهو يعلم أن سبب هذا الأمر إنما هو الغيرة ، وقد كان لحسن خلقه وحسن معاشرته صلى
الله عليه وسلم يحتمل ذلك منهن .
وقوله صلى الله عليه وسلم وهو يبتسم : ( إِنَّهَا ابْنَةُ أَبِي بَكْرٍ ) يعني في
القوة والعقل ، قال الحافظ : " أَيْ : إِنَّهَا شَرِيفَةٌ عَاقِلَةٌ عَارِفَةٌ
كَأَبِيهَا " انتهى من " فتح الباري " (5/207) .
وقال النووي :
" الْإِشَارَةُ إِلَى كَمَالِ فَهْمِهَا وَحُسْنِ نَظَرِهَا "انتهى من " شرح النووي
على مسلم " (15/207) .
فإنها لم تنتصر من أختها ،
إلا بعد أن علمت أنه صلى الله عليه وسلم لا يغضبه ذلك .
وحيث إن زينب رضي الله عنها هي التي ابتدأت ، كان في إذن النبي صلى الله عليه وسلم
لعائشة في الانتصار منها ما يحقق العدل بين الزوجين ، ولو أنه صلى الله عليه وسلم
لم يرض لها بالانتصار من أختها ، لأوشك أن يقول المخالف الجاهل : هذا ليس من العدل
!! لِمَ لمْ يأذن لها في الانتصار منها ؟!
قال النووي رحمه الله :
" فِيهِ أَنَّهَا اِنْتَصَرَتْ لِنَفْسِهَا فَلَمْ يَنْهَهَا " انتهى من " شرح
النووي على مسلم " (15/207) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه
الله :
" أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وابن مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ طَرِيقِ
التَّيْمِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " دَخَلَتْ عَلَيَّ زَيْنَبَ
بِنْتِ جَحْشٍ فَسَبَّتْنِي فَرَدَعَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَبَتْ ، فَقَالَ لِي : سُبِّيهَا . فَسَبَبْتُهَا " انتهى من " فتح
الباري " (5/99) .
والحاصل :
أن يعلم السائل وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس عشرة ،
وخير الناس لأهله ، وأولى الناس بالعدل والجميل في كل شيء ، حقير أو جليل ؛ وتأمل
جوابه صلى الله عليه وسلم لذلك المنافق الجلف الجافي ، لما اعترض على شيء من قسمة
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له : " يَا رَسُولَ اللَّهِ ، اعْدِلْ !! " .
فقال صلى الله عليه وسلم : ( وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ ؟! قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ ) !!
ومتى تبين للسائل شيء من
كلام أهل العلم في شرح حال النبي صلى الله عليه وسلم ، وبيان جميل سيرته ، وحسن
خلقه وعشرته : فالواجب عليه ألا يتعدى محامل الخير والجمال في ذلك ، ويفتح على نفسه
باب الظنون والأوهام .
ومتى أشكل عليه شيء ، ولم يتبين له وجهه ، فليكن عنده أصل عام في ذلك :
ويلك ؛ ومن يعدل ، إذا لم يعدل رسول الله ؟!
ومن أولى بالجميل ، إن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!
راجع جواب السؤال رقم : (7878) ، (34701) .
والله أعلم .