تريد أن تقتنع بوجوب إرجاع الكتاب المستعار ولو بعد عشر سنين
عندما كنت في العاشرة أو الحادية عشرة لا أتذكر على وجه التحديداستعرت كتاباً من المدرسة ، ولم أرجعه حتى الآن ، وأنا في السابعة عشرة ، ما زال الكتاب لديّ ، ولكنه ممزق بعض الشيء .
فماذا أفعل ؟ ، هل يجب عليّ إرجاعه إلى المدرسة أم لا ؟
الجواب
الحمد لله.
الحكم الشرعي لكل من استعار شيئا ، سواء كان كتابا – كما في سؤالك – أم غيره ،
وسواء مرت سنة واحدة أم سبعون سنة ، هو وجوب أداء الأمانة إلى أهلها ، والتوبة عن
التقصير في إرجاع المستعار لصاحبه . وفي ظننا أن مثل هذا الحكم من الأمور الواضحة ،
بل المسلمة لدى جميع الناس ، لأسباب عديدة ، كل منها كاف لبث القناعة في عقلك ونفسك
لو تأملت فيها ، فمن ذلك :
أولا :
أن الشريعة الإسلامية تأمر بذلك ، وقد سبق ذكر الأدلة الكثيرة في موقعنا في الفتوى
رقم: (83599)، ونضيف هنا دليلا صريحا آخر ، يروى عَنِ الْحَسَنِ ، عَنْ سَمُرَةَ
بْنِ جُنْدُبٍ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : ( عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ ) رواه الإمام أحمد في "
المسند " (33/277) وقال محققو طبعة مؤسسة الرسالة : حسن لغيره . وقال الذهبي:
إسناده صالح . في " المهذب " (7/3415). وقال ابن الملقن : " على شرط البخاري " كما
في " البدر المنير " (6/753) ,
جاء في " عون المعبود " (9/ 344):
" الحديث دليل على أنه يجب على الإنسان رد ما أخذته يده من مال غيره بإعارة أو
إجازة أو غيرهما حتى يرده إلى مالكه " انتهى.
ثانيا :
أن القيم الأخلاقية التي يتفق عليها الناس ، مؤمنهم وكافرهم ، صغيرهم وكبيرهم ،
غنيهم وفقيرهم ، عالمهم وجاهلهم ، تقتضي حفظ الأمانة ، وأداء كل شيء لمالكه وصاحبه
، سواء كان قليلا أم كثيرا ، فمن يتساهل فيأكل القليل بغير وجه حق ، حري أن يعتدي
على الكثير ، ويتعدى الحد الشرعي ، ويتناسى الأخلاق والقيم .
ثالثا :
تصوَّري معنا لو أن كل من استعار شيئا لم يرجعه مطلقا ، فكيف سيصبح وجه العالم
حينئذ . وكيف سيتعامل الخلق فيما بينهم حين لا يثق أحد بأمانة أحد ! لا شك أن هذا
فرض فظيع لو قُدر وقوعه لا قدر الله .
وعلى العكس من ذلك :
يمكنك أن تتخيلي معنا مجتمعا يؤدي جميع الناس فيه الأمانات إلى أهلها ، سواء قلت أم
كثرت ، فأية حياة آمنة وادعة ، تلك التي يحياها الناس حينئذ ، وكم ستؤدي هذه
الفضيلة إلى فضائل أخرى كثيرة ، لا شك أن ذلك عالم مثالي رائع ، كلنا يرجو أن يصل
الناس إليه ، وقد حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض أخلاق الصالحين في الأمم
السابقة ، فأخبر عن أحدهم أنه قال : ( اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي
اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ فَأَعْطَيْتُهُ ، وَأَبَى ذَاكَ أَنْ
يَأْخُذَ ، فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ ، حَتَّى اشْتَرَيْتُ
مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا ، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ : يَا عَبْدَ اللَّهِ أَعْطِنِي
حَقِّي ، فَقُلْتُ : انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا فَإِنَّهَا لَكَ
، فَقَالَ : أَتَسْتَهْزِئُ بِي ؟ قَالَ : فَقُلْتُ : مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ
وَلَكِنَّهَا لَكَ ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ
ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ ، فَافْرُجْ عَنَّا فَكُشِفَ عَنْهُمْ ) رواه البخاري (2215) .
رابعا :
ثم إن مما يعينك على تحقيق القناعة بصحة الجواب السابق أن تفترضي أن جميع صديقاتك
استعارت منك كل واحدة منهن شيئا من أغراضك الخاصة ، من الملابس أو الأدوات أو الكتب
، فلم ترجع أي منهن ما استعارته منك ، بدعوى طول الزمان ، وتعرض المستعار لشيء من
التلف أو الضرر ، فهل ستكونين راضية حينها ! وهل ترين ذلك النوع من التعامل لائقا
بين الناس ! ألن يصيبك الضيق والضجر خاصة عندما يكون المستعار أمرا عزيزا عليك ، أو
ثمينا بعض الشيء ، لعلك ستدركين حينها أن الدنيا لا تصلح إلا إذا حفظ الناس نظامها
، وأدوا الأمانات إلى أهلها ، وهذا أصل عظيم من الأصل التعايش بين بني الإنسان : (
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا
حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا
يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) الأنفال/58 ، وقد اكتملت
الصورة أمامنا ، بسد باب الحيل ، والارتقاء إلى حال الأمانة التامة مع كل أحد ،
فقال عليه الصلاة والسلام : ( أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنْ ائْتَمَنَكَ ، وَلَا
تَخُنْ مَنْ خَانَكَ ) رواه أبو داود في " السنن " (3534) وصححه الألباني في " صحيح
أبي داود ".
والله أعلم .