الحمد لله.
ليس من الحكمة ولا من سبيل الشفاء أن تتعاملي مع مرضك بهذا الجزم واليقين ، كأنك متأكدة من أن الجن والشيطان هو السبب في ما يصدر عنك من اضطرابات ، وعددت " المس " هو حقيقة مرضك .
ونحن نبدأ نصيحتنا بتنبيهك إلى أن " المس " - وإن كان أمرا واقعا في الناس - إلا أنه نادر الحدوث كما يقرر ذلك الخبراء ، وغالب ما يصيب بعض المرضى من اضطراب أو اختلال ، إنما هي أوضاع نفسية ناتجة عن ظروف اجتماعية ، أو ظروف معيشية خاصة ، أو أسباب عضوية ناتجة عن اختلال في الإفرازات الهرمونية في الجسم ، وبعض هذه الإفرازات هي المسؤولة عن إحداث الاضطرابات أو تنعكس على الجسم بأعراض تشبه أعراض " المس "، وهي في حقيقتها اختلالات تحتاج إلى العقار الذي يعيدها فيضبطها إلى الحال الطبيعي .
قال الشيخان عبد الله الطيار وسامي المبارك :
" قد تشترك أعراض " المس " ، " السحر " ، " العين " ببعض الحالات في الأمراض النفسية أو العضوية ، فمثلاً : من أعراض المس : القلق ، فهل كل قلِق ممسوس ، فالحالة النفسية تسبِّب القلق في كثير من الأحيان ، والإعراض عن الرحمن يسبِّب القلق ، قال تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) طه/ 124 . والصداع قد يكون سببه المس ، وقد يكون سببه أمراض عضوية " .
انتهى من " فتح الحق المبين في علاج الصرع والسحر والعين " ( ص 64 ) .
لذلك لا بد من بذل جميع أسباب العلاج ، ومراجعة المختصين النفسيين المعروفين بالفهم والأمانة ، وطلب المساعدة في اكتشاف الأسباب الحقيقية لما تعانين ، والبحث عن الدواء النافع الذي نسأل الله تعالى أن يهديك إليه ، وخلال ذلك تبذلين في المحافظة على الأذكار الشرعية والأوراد القرآنية جهدك ، كي تكون لك وقاية وشفاء بإذن الله ، فقد قال الله عز وجل : ( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الإسراء/82.
وأما حضورك مجالس العلم مع غلبة وقوع تلك الاضطرابات :
فإن كان ما يحصل لك من اضطراب ، ورفع الأصوات أمرا يسيرا محتملا ، أو يأتي في أوقات قليلة : فنرجو ألا يكون بحضورك بأس ، خاصة إذا لم يكن ذلك التشويش أثناء الصلاة .
وأما إن كان التشويش كثيرا ، مزعجا لمن حولك ، يفسد عليهم ما يرجونه من الفائدة ؛ فلا ننصحك به ، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ : ( اعْتَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَسَمِعَهُمْ يَجْهَرُونَ بِالْقِرَاءَةِ ، فَكَشَفَ السِّتْرَ ، وَقَالَ : أَلَا إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ ، فَلَا يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَلَا يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْقِرَاءَةِ ) رواه أبو داود في " السنن " (1332) وقال النووي : " إسناده صحيح " انتهى من " المجموع " (3/392)، وصححه الألباني في " صحيح الجامع " برقم (1225).
فإذا كان رفع الصوت بالقرآن والتشويش على المتعبدين سماه النبي صلى الله عليه وسلم إيذاء ، ونهى عنه ، فمن باب أولى أن ينهى الذي يرفع صوته لمرضه ومعاناته ؛ ولذلك نص الفقهاء على منع كل من يتسبب بالتشويش أن يدخل المسجد ، سواء وقع ذلك بإرادته أم رغما عنه . المهم أن المساجد وحلق العلم والذكر لا تترك عرضة لتشويش أصحاب الأعذار بغير قصد منهم، وهم في ذلك مأجورون مثابون بإذن الله سبحانه ؛ لأن التزام الحكم الشرعي أعظم ثواب وأجر ، وتعظيم حرمات المساجد وحلق العلم أولى من تقديم مصلحة خاصة يمكن تحقيقها عاجلا أم آجلا ، ونحن نرجو أن يكتب الله لك الشفاء العاجل لما يراه من صدقك وتوقفك عند الحكم الشرعي السابق وتقديمك حرمة العلم الشرعي على تعلمك الشخصي .
وأما إذا كانت الاضطرابات تصيبك في أوقات نادرة أو قليلة ، فالنادر لا حكم له ، ولا حرج عليك في حضور دروس العلم وحلق الذكر ، وحبذا لو كانت لك رفيقة تعينك على تدارك الخلل إن وقع أثناء الدرس فنأمن من المحذور .
وللمزيد ننصحك بالاطلاع على الفتوى رقم : (173064) .
والله أعلم .