أنا معلمة أسكن في مكة ، وبالتحديد في الشرائع ، وعملي في الطائف ، وأخرج مع أذان الفجر ، وأجد معاناة في الوضوء ، لأني أحيانا تكون الإفرازات مستمرة معي ، وأحيانا يكون معها دم ، أي استحاضة .
فهل يصح لي أن أتوضأ قبل أذان الفجر في منزلي ؟
لأن الباص يأتيني مع أذان الفجر ، ونصلي في مسجد المحطة ، ولا أستطيع الوضوء في حمامات المحطة ؛ لأن الوقت لا يسمح لي إلا بالصلاة فقط ، ولا يريدون التأخير .
الحمد لله.
أولا :
نزول الإفرازات بشكل مستمر ، يلحق بصاحب الحدث الدائم ، كالمستحاضة ومن به سلس البول فإن كان ينقطع وقتاً يتمكن به صاحب العذر من الوضوء والصلاة لزمه تأخير الصلاة إلى ذلك الوقت ، ما دام يتمكن من الصلاة فيه .
ومن كانت هذه حاله ، فله الوضوء قبل دخول الوقت ، وهو على طهارته ما لم يتيقن الحدث فتبطل طهارته ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ أَحَدِكُمْ إِذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ ) رواه البخاري (6954) ومسلم (225).
وروى مسلم (224) عن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ ) .
وللاستزادة ينظر جواب سؤال رقم : (39494) .
ثانيا :
من تصيبها هذه الإفرازات بشكل مستمر ، فإنها تصلي بحسب حالها ، لكن يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة ، بعد دخول وقتها ، عند جمهور أهل العلم ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها قالت : " جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلَا أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ الصَّلَاةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَيْسَ بِحَيْضٍ فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلَاةَ وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي ) وفي لفظ : ( ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ ) رواه البخاري (228).
قال العيني رحمه الله قوله : " وتوضئي لكل صلاة " أي : لوقت كل صلاة ، واللام للتوقيت ، كما في قوله تعالى : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس )..." انتهى من "شرح سنن أبي داود" (2/86)
وجاء في " الموسوعة الفقهية " (3/333) : " والوضوء واجب لوقت كل صلاة عند الحنفية , والشافعية , والحنابلة ، وذلك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في المستحاضة : ( أنها تتوضأ لكل صلاة ) " انتهى .
وينظر جواب السؤال رقم : (22843)، ورقم : (44980) .
ثالثا :
إذا كان الوضوء بعد دخول الوقت يشق عليك مشقة زائدة ، ويوقعك في شيء من الحرج ، فالذي يظهر من الحال التي ذكرت أنه لا حرج عليك ـ إن شاء الله ـ في الوضوء قبيل أذان الفجر ، عند استعدادك للخروج من المنزل مع الباص ؛ فقد ذهب بعض أهل العلم ـ ممن يأمر صاحب العذر بالوضوء لكل صلاة ـ إلى عدم اشتراط دخول الوقت ؛ بل إذا توضأ قبل الوقت ، ثم دخل عليه الوقت : فطهارته صحيحة ، وقد صدق عليه ـ أيضا ـ أنه توضأ لهذه الصلاة .
وهو مذهب قول أبي حنيفة ، وصاحبه أبي محمد .
ينظر : " الموسوعة الفقهية " (3/212) .
بل إن مذهب الإمام مالك في أصل المسألة : أن الوضوء من الحدث الدائم مستحب وليس بواجب .
قال ابن عبد البر رحمه الله :
" "وَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ وَلَا عَلَى صَاحِبِ السَّلَسِ وُضُوءًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْفَعُ بِهِ حَدَثًا .
وَقَدْ قَالَ عِكْرِمَةُ وَأَيُّوبُ وَغَيْرُهُمَا : سَوَاءٌ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ أَوْ دَمُ جُرْحٍ : لَا يُوجِبُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وُضُوءًا .
وَرَوَى مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ إِلَّا أَنْ تَغْسِلَ غُسْلًا وَاحِدًا ثُمَّ تَتَوَضَّأَ بَعْدَ ذَلِكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ .
قَالَ مَالِكٌ : وَالْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَيَّ . وَالْوُضُوءُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ اسْتِحْبَابٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ الدَّائِمَ ، فَوَجْهُ الْأَمْرِ بِهِ الِاسْتِحْبَابُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْوُضُوءَ عَلَى المستحاضة غير وَاجِبٌ رَبِيعَةُ وَعِكْرِمَةُ وَأَيُّوبُ وَطَائِفَة " انتهى .
"التمهيد" (16/98) . وينظر أيضا (16/94) ، (22/109) .
وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، في أحد قوليه . قال :
"وَقَالَ آخَرُونَ لَا تَتَوَضَّأُ إِلَّا عِنْدَ الْحَدَثِ وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَمَالِكِ بن أنس إلا أن مالك يَسْتَحِبُّ لَهَا الْوُضُوءَ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ " انتهى من "الاختيارات الفقهية" ، للبعلي (15) .
فإذا كان أصل الحكم مختلفا فيه بين أهل العلم اختلافا معتبرا سائغا ، والزيادة التي في الحديث ، وفيها الأمر بالوضوء لكل صلاة : اختلف في رفعها ووقفها ، وجزم الدارقطني وغيره من النقاد بأنها موقوفة على عروة بن الزبير ، وليست مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
ينظر : "العلل للدارقطني" (14/437) ، (14/140وما بعدها ) ، وأيضا: " فتح الباري" لابن رجب (2/71-74) .
فإذا كان أصل الحكم فيه مثل ذلك الخلاف المعتبر ، فطروء مشقة خاصة ببعض المكلفين ، يتوجه معه التيسير بأخذ القول الآخر المعتبر والتوسعة به ، ومن قواعد الشرع : رفع الحرج ، وأن الأمر إذا ضاق اتسع ، مع أنه ينبغي مراعاة الخلاف ، والاحتياط للعبادة بأن يأخذ صاحب العذر بقول الجمهور في عموم الأحوال التي لا يلحقه فيها بهذا القول حرج ظاهر ، أو مشقة ظاهرة غير معتادة .
والله أعلم .