أنا مريضة بمرض جلدي في وجهي ، وهو تصبغات الشمس ، وأدرس في الكلية ، وطلبت من والدتي أن أقدم اعتذارا عن إكمال هذا الفصل الدراسي إلى حين أن أتعالج ؛ لأن وجهي بهذا الشكل : أنفي أبيض ، وخدي الأيمن أسود ، وخدي الأيسر أفتح من الأيمن بقليل ، سبب لي حالة نفسية لا يعلم بها إلا الله عز وجل ، فرفضت والدتي رفضا قاطعا ، وأخي الأكبر بما أنه هو المسؤول عني بعد وفاة والدي رحمه الله رفض هو أيضا ، مع العلم أني حاولت الانتحار عدة مرات بسبب هذا الموضوع ، وأهلي لم يدروا إلا في مرة واحدة كانت عندما حاولت قطع وريدي أمام والدتي ، ولكنها ما زالت مصرة على عدم اعتذاري عن هذا الفصل ، مع العلم أني أبكي معظم الوقت ، وصرت عصبية ، وأدعو الله بالشفاء العاجل لي ، وأيضا الطلبة والمدرسين في الكلية لا يساعدوني كثيرا ، فنظراتهم تقول لي إني قبيحة ، وتصرفاتهم تدل على ذلك ، هذا غير الكلام الجارح الذي يقولونه خلفي أو أمامي أحيانا ، لم أعد أتحمل ، أفكر بالانتحار أحيانا كثيرة ، كلما أتوب أرجع وانتحر ولا يحصل معي شيء ، لا أعلم هل لأن الله يحبني ، أم لأنه غاضب علي ويريد تعذيبي ؟، أحيانا أفكر بأفكار سيئة ، أن أكره الله - أستغفر الله - ، أو أن الله لا يحبني مع أن نيتي طيبة وأحب كل الناس .
ساعدني فإني لا أعلم ماذا أفعل ؟
الحمد لله.
يعيش كثير من الناس في هذه الدنيا بتصورات خاطئة ، يتوهمون بسببها أن ما هم عليه من
حال الصحة والعافية ، أو الغنى والرفاه ، أو الأمن والأمان ، كلها أحوال دائمة لا
تتغير ولا تتبدل ، وهم يشاهدون كل اليوم الأمراض والأوجاع والأهوال التي تصيب البشر
من حولهم ، أو في بلاد قريبة إليهم ، ويحسبون أنهم في مأمن من ذلك ، أو أن الله
سبحانه وتعالى خصهم بالحفظ والصيانة دون سائر الناس !!
وبعضهم يبقى في دائرة الأمل ، وربما الأماني والغرور ؛ حتى يفجأه من البلاء ما لم
يكن في الحسبان ، فلا يملك حينها حيلة يدفع عنه ما هجم عليه من هم وغم .
إن أهم ما يجب على كل منا أن يوطن نفسه عليه – كي يتمكن من تجاوز مصائب الدنيا – أن
يكون في ترقب دائم لأحواله ، وتوقع لكل نقص وابتلاء ، بل وانتظار لما يصيبه من
حوادث الزمان ، فمن المحال دوام الحال ، ومن أخطر الأوهام التي يعيش بها الإنسان أن
يظن أنه سيحيا ويموت بعيدا عن أي ابتلاء ، فقد ابتلي الأنبياء أعظم البلاء ،
أصابتهم الأمراض والأدواء بجميع صنوفها وأشكالها ، منهم من سجن ، ومنهم من قتل ،
ومنهم من طرده قومه ، وآخرون عذبوا وأوذوا ، وهذا ما أصاب العلماء والصالحين من
بعدهم ، وهو ما نشاهده اليوم في كثير من البلدان الإسلامية حولنا ، يصبح الناس فيها
ويمسون بأنواع من البلاء لا يعلم بها إلا الله عز وجل .
كل ذلك ينبغي أن يدفعك إلى التساؤل المنطقي الطبيعي : هل أنت أكرم على الله من
هؤلاء جميعا ! أم هل أخذت عهدا من الله أن يقيك من أي مصاب دون سائر الناس ! أم كل
هؤلاء الناس كانوا من الفسقة فاستحقوا ما أصابهم ! أما أنت فقلبك سليم لا تستحقين
ما ابتلاك الله به ! والله عز وجل يقول : ( فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا
ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ .
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَهَانَنِ ) الفجر/15-16.
وإذا أردت أن نذكرك بأن ما أصابك ، مهما كان شديدا ، فهو يسير في جنب ما يصاب به
غيرك من الصابرين المحتسبين ، فإننا ندعوك أن تنظري في حال الأسيرات ، والمظلومات ،
والمضطهدات في السجون ، ومن أقعده المرض ، وبرح به البلاء حتى لم يعودوا يقدرون على
حركة أو منطق وكلام ، فأين أنت من هؤلاء ؟!
نحن نقدر ما تقولين ، ونألم لما أصابك ، وأنت فتاة جامعية ، لكننا أيضا نقدر نعم
الله عليك وعلى عباده جميعا ؛ ونعلم أنك لو تأدبت بأدب النبي صلى الله عليه وسلم
لمن أصابه شيء من البلاء ، لهان عليك ما تجدين :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ، وَلَا تَنْظُرُوا
إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) .
رواه مسلم (2963) .
إنك لا تعانين ألما جسديا يقطع عليك أحشاءك لا قدر الله ، ولا يصيبك منه فقر معدم
تضطرين معه إلى سؤال الناس ، ولا تتعرضين معه إلى القهر والظلم من شرار الناس ، ومن
ترينهم من المعافين حولك فإنما ترين منهم الوجه الظاهر ، ولو فتشت عن بواطن أحوالهم
لرأيت فيهم وفي بيوتهم أقدارا من البلاء لم تخطر لك على بال ، ولو عرفت بشيء منها ،
لحمدت الله على ما أنت فيه من العافية :
أَتَجزَعُ مِمّا أَحدَثَ الدَهرُ بِالفَتى وَأَيُّ كَريمٍ لَم تُصِبهُ القَوارِعُ
فالسعيد من حمد الله تعالى على ما هو عليه ، ورضي بربه ، ورضي عنه ، وتقبل منه بقلب
مطمئن ، واثق بما عند الله سبحانه من خلف وأجر عظيم ، وأن هذه الدنيا دار ممر وليست
دار مقر ، وما هذه الابتلاءات إلا تذكرة لنا كي لا نحب العاجلة وننسى الآخرة ، فهي
في حقيقتها رحمة مهداة من الله سبحانه وتعالى ، كي لا نطغى فنكفر ، ولا ننسى فنقصر
، فنبقى على ذكر دائم بسفرنا فنتزود من الصالحات ، ونستكثر من التقوى ، فإن خير
الزاد التقوى .
نحن بحاجة إلى القوة القلبية التي نواجه بها مصابنا ، ولا نحقق ذلك إلا بالتفكر في
المعاني السابقة ، وبتذكر ما نحن فيه من نعم أخرى حرمها كثير من الناس ، وفوق ذلك
كله أن يعيش كل منا حياة عمل وإنجاز للوصول إلى الأهداف المرسومة لجميع المسلمين ،
المتمثلة بإقامة العبودية لله عز وجل ، ونشر القيم والفضيلة ، وجلب السعادة لجميع
البشر ، فحين نستغرق في هذا الهم ، ونحيا ونموت لإنجازه وتحقيقه ، فحينها فقط ستهون
علينا هذه العوائق أثناء الطريق ، وسندرك أن كل ما دون النار ، وغضب الجبار : محتمل
، ومقدور عليه .
عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : ( يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ ، حِينَ يُعْطَى
أَهْلُ البَلاَءِ الثَّوَابَ ، لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي
الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ ) رواه الترمذي (رقم/2402) وقال : حديث غريب . وحسنه
الألباني في " صحيح الترمذي ".
فأقبلي على دراستك ، ولا
ننصحك بتأجيلها بسبب مرضك ، فلو أن كل مصاب قطع مسيرته نحو النجاح والإنجاز ، لما
تحقق له ما يصبو إليه ، ولانقطع عن وصول القمم جميع البشر ، وإننا نشير عليك بأن
تلبسي النقاب ، فهو طاعة لله وقربة ، ثم هو يعفيك من شعورك بالنظر الدائم إليك ،
ولو كان عندك كلية أخرى نظيرة لما تدرسين فيها ، وأمكن أن تحولي إليها دراستك ،
وتبدئي في وسط جديد ، فهو خير .
واعلمي أن الله عز وجل قد
أكرمك بإنقاذك من الموت ومحاولتك الانتحار ، فقد عافاك من ذلك الإثم العظيم ، وفتح
لك باب التوبة من تلك الوساوس الخاطئة ، وذلك من علامات الخير والحمد لله ، يجب
عليك شكرها بالعمل الصالح ، والتوبة النصوح ، والاستغفار ، من جميع ما بدر منك من
محاولات الانتحار ، فحين تستذكرين عظيم إثم من يقع في هذا الذنب الكبير علمت جليل
نعمة الله عليك ، فالحياة فرصة نادرة واحدة لا تتكرر ، والأمة تحتاج إنجازك وإبداعك
، فأنت لبنة في بناء أمتنا العظيم ، فلا تظني في نفسك الضعف والوهن عن تقديم الخير
وإن صغر .
عن نافع قال : " كان ابن عمر إذا جلس مجلسا لم يقم حتى يدعو لجلسائه بهذه الكلمات ،
وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهن لجلسائه : ( اللهُمَّ اقْسِمْ
لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تُحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ ، وَمَنْ
طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ ، وَمَنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ
عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا ، اللهُمَّ أَمْتِعْنَا بِأَسْمَاعِنَا ،
وَأَبْصَارِنَا ، وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا ، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا
، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمْنَا ، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا ،
وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا ، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْثَرَ
هَمِّنَا ، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا ، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا
يَرْحَمُنَا ) رواه النسائي في " السنن الكبرى " (9/154)، والترمذي في "السنن "
(رقم/3502) وقال : حسن غريب . وصححه الألباني في " صحيح الترمذي ".
وعن عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : " صَلَّى بِنَا عَمَّارُ
بْنُ يَاسِرٍ صَلَاةً ، فَأَوْجَزَ فِيهَا ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ :
لَقَدْ خَفَّفْتَ أَوْ أَوْجَزْتَ الصَّلَاةَ ، فَقَالَ : أَمَّا عَلَى ذَلِكَ ،
فَقَدْ دَعَوْتُ فِيهَا بِدَعَوَاتٍ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَلَمَّا قَامَ تَبِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ هُوَ
أُبَيٌّ غَيْرَ أَنَّهُ كَنَى عَنْ نَفْسِهِ ، فَسَأَلَهُ عَنِ الدُّعَاءِ ، ثُمَّ
جَاءَ فَأَخْبَرَ بِهِ الْقَوْمَ : ( اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ ،
وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي ،
وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي ، اللَّهُمَّ وَأَسْأَلُكَ
خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي
الرِّضَا وَالْغَضَبِ ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ،
وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ
، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ
بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ ، وَالشَّوْقَ
إِلَى لِقَائِكَ ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ ،
اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ )
رواه النسائي في " المجتبى " (رقم/1305) وصححه الألباني في " صحيح النسائي ".
وللمزيد ينظر الفتوى رقم : (21677)
، (111938) .
والله أعلم .