الحمد لله.
نسأل الله أن يتقبل منك توبتك ، ويثبتك على صراطه المستقيم .
قول السائل : لماذا اختار الله رسوله صلى الله عليه وسلم لدرجة الوسيلة مع أنه من
الممكن أن يأتي رجل صالح من بعده ويجمع حسنات أكثر منه ؟
فنقول :
أولا :
1 - ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وهو سبحانه لا يُسأل عما يفعل ، يمن على من يشاء
من عباده بما يشاء من فضله ، ولا يقال : لم منّ على فلان ولم يمن على فلان ؟
قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ
مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ ) الأنعام/ 53 .
وقال تعالى : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى
مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )
الأنعام/ 124 .
2 – روى الإمام أحمد (3589) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : ( إِنَّ
اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ
فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ
مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهُمْ
وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ ) حسنه الألباني في " الضعيفة "
(2/17) .
وروى البيهقي في "دلائل النبوة" (47) " عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أنهم قالوا له : أخبرنا عن نفسك ، فذكر الحديث ، قال : ( واسترضعت في بني سعد بن
بكر ، فبينا أنا مع أخ لي في بهم لنا ، أتاني رجلان عليهما ثياب بياض ، معهما طست
من ذهب مملوءة ثلجا ، فأضجعاني ، فشقا بطني ، ثم استخرجا قلبي ، فشقاه ، فأخرجا منه
علقة سوداء ، فألقياها ، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج ، حتى إذا أنقيا ثم رداه
كما كان ، ثم قال أحدهما لصاحبه : زنه بعشرة من أمته ، فوزنني بعشرة ، فوزنتهم ، ثم
قال : زنه بمائة من أمته ، فوزنني بمائة ، فوزنتهم ، ثم قال : زنه بألف من أمته ،
فوزنني بألف ، فوزنتهم . فقال : دعه عنك ، فلو وزنته بأمته لوزنهم )وصححه الألباني
في "الصحيحة" (1545) .
فنقول للجواب عن هذا السؤال : خصه الله تعالى بمنته وفضله ؛ لأنه سبحانه يمن على من
يشاء بما يشاء ولا يسأل عما يفعل ؛ ولأنه عز وجل نظر في قلوب عباده فوجد قلب رسوله
صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد فخصه بأعظم فضل وأكرم منزلة .
فمن كان قلبه أطهر القلوب وخيرها وأكملها على الإطلاق فهو أولى الخلق بأفضل منزلة
وأعلى رتبة ، وهذا من تمام عدل الله تعالى وتمام فضله ؛ فهو سبحانه أعلم بمن يستحق
فضله ، ومن هو أهل لحمل نعمه ، وشكرها ؛ وبهذا رد الله تعالى على المشركين الذين
طعنوا في حكمة الله ، ورغبوا عن شرعه ، بحججهم الواهية ؛ قال الله تعالى : (
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ )
الأنعام/35 ، وقال تعالى : ( وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ
حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ
يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ
وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ) الأنعام/124.
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" وفي هذا اعتراض منهم على الله ، وعجب بأنفسهم ، وتكبر على الحق الذي أنزله على
أيدي رسله ، وتحجر على فضل الله وإحسانه .
فرد الله عليهم اعتراضهم الفاسد ، وأخبر أنهم لا يصلحون للخير ، ولا فيهم ما يوجب
أن يكونوا من عباد الله الصالحين ، فضلا أن يكونوا من النبيين والمرسلين ، فقال:
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ فيمن علمه يصلح لها ، ويقوم
بأعبائها ، وهو متصف بكل خلق جميل ، ومتبرئ من كل خلق دنيء ، أعطاه الله ما تقتضيه
حكمته أصلا وتبعا، ومن لم يكن كذلك ، لم يضع أفضل مواهبه ، عند من لا يستأهله ، ولا
يزكو عنده .
وفي هذه الآية ، دليل على كمال حكمة الله تعالى ، لأنه وإن كان تعالى رحيما واسع
الجود، كثير الإحسان ، فإنه حكيم لا يضع جوده إلا عند أهله " انتهى من "تفسير
السعدي" (271) .
ثانيا :
قول السائل :
مع أنه من الممكن أن يأتي رجل صالح من بعده ويجمع حسنات أكثر منه !
قول باطل مردود ؛ إذ لا يمكن أن يأتي أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر
حسنات منه ، ولو عاش إلى يوم القيامة ، فطوى الليل بالقيام والنهار بالصيام ، لا
يمكن أن يدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لسبب بسيط لو تأملت ، وهو أنه ما من
أحد مسلم يعمل من الصالحات إلا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الأجر والفضل
ما لهذا العامل ؛ لأنه الذي تسبب في هداه بفضل الله ، ولولا أن منّ الله على هذا
العامل برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله رحمة للعالمين لكان من الضالين
المخذولين ، ولما تيسر له فعل مثل ذرة من خير يثيبه الله عليها ؛ لأن شرط قبول
العمل أن يكون خالصا لله وأن يكون العامل فيه متابعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
، فلا يثاب أحد على عمل عمله إلا ما كان وفق هدي رسول الله وسنته صلى الله عليه
وسلم .
وقد روى مسلم (2674) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ
مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا ) .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم دعا العالمين كافة إلى كل خير ونهاهم عن كل شر ؛
فروى الطبراني في "المعجم الكبير" (1647) عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال : ( ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بُين لكم
) وصححه الألباني في الصحيحة (1803) .
وروى مسلم (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنه قال : ( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا
مِنْ ثَلاثَةٍ : إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ ،
أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ) .
قال ابن عثيمين رحمه الله :
" يكتب له صلى الله عليه وسلم أجر كل ما عملته الأمة ، فكل ما عملنا من خير وعمل
صالح من فرائض ونوافل ، فإنه يكتب أجره للرسول عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه هو الذي
علمنا فهذا داخل في قوله : (أو علم ينتفع به) " انتهى "شرح رياض الصالحين" (2/ 258)
.
فلرسول الله صلى الله عليه
وسلم مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة ، سواء في فعل الخير أو ترك الشر ، فمَن
مِن العالمين يدركه ؟!
فعليك أن تجدد توبتك وتحسنها
فيما يستقبل ، ومن إحسانها أن تنشغل بما ينفعك ، وتبحث عما يقربك إلى الله ، ويدلك
على طاعته ، ويلزمك طريق الهداية ، لا أن تفتح على نفسك أبواب الوساوس والشبهات ،
التي هي طريق البطالة ، ولا فائدة منها تعود عليك ، لا في دينك ، ولا دنياك .
راجع للفائدة جواب السؤال رقم : (2036)
.
والله تعالى أعلم .