الحمد لله.
المنع من شد الرحال إلى المشاهد والقبور ، وعامة المساجد والأماكن المعظمة ، سوى
المساجد الثلاث : لا يلزم عليه تحريم السفر لمعارض الكتاب أو التجارة أو طلب العلم
ونحو ذلك ، وذلك لسبب سهل ميسور ، لا بد أن يفهمه طالب العلم ويعتني به ، وهو أن
حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ
مَسَاجِدَ : المَسْجِدِ الحَرَامِ ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى ) رواه البخاري (1189) ،
ومسلم (1397) لم يفسره العلماء بأن معناه : لا تشد الرحال مطلقا لأي عذر ،
ولأي عمل ، ولا يقصد به كذلك : المنع من شد الرحال لأجل فائدة شرعية ، من طلب علم ،
أو دعوة إلى الله ، أو نحو ذلك من الطاعات والأعمال الصالحة ؛ بل المعنى : لا تشد
الرحال إلى مكان يقصد بالتعظيم لذات المكان ، كالسفر لزيارة مسجد غير المساجد
الثلاثة ، أو السفر لقبر نبي ، أو ولي ، ونحو ذلك ، فهذه ينطبق فيها مناط التحريم ،
وهو أنها بقاع أو أماكن ، تعظم وتقدس وينسب لها الفضل لذاتها .
يقول ابن الأثير رحمه الله :
" المراد : لا يقصد موضع من المواضع بنية العبادة والتقرب إلى الله تعالى إلا إلى
هذه الأماكن الثلاثة ، تعظيماً لشأنها وتشريفاً " انتهى من " جامع الأصول " (9/283)
.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" هذا النهي يعم السفر إلى المساجد والمشاهد ، وكل مكان يقصد السفر إلى عينه للتقرب
، بدليل أن بصرة بن أبي بصرة الغفاري لما رأى أبا هريرة راجعًا من الطور الذي كلم
الله عليه موسى قال : ( لو رأيتك قبل أن تأتيه لم تأته ؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم قال : لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) .
فقد فهم الصحابي الذي روى الحديث : أن الطور وأمثاله من مقامات الأنبياء مندرجة في
العموم ، وأنه لا يجوز السفر إليها ، كما لا يجوز السفر إلى مسجد غير المساجد
الثلاثة .
وأيضًا : فإذا كان السفر إلى بيت من بيوت الله غير الثلاثة لا يجوز - مع أن قصده
لأهل مصره يجب تارة ، ويستحب أخرى ، وقد جاء في قصد المساجد من الفضل ما لا يحصى -
فالسفر إلى بيوت عباده : أولى أن لا يجوز " انتهى من " اقتضاء الصراط المستقيم "
(2/182-183) .
ويقول أيضا رحمه الله :
" قوله صلى الله عليه وسلم : ( لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ
مَسَاجِدَ ) استثناء مفرغ ، فإما أن يكون التقدير : لا تشد إلى مسجد إلا إلى هذه
الثلاثة ، وإما أن يكون التقدير : لا تشد إلى مكان مطلقًا من الأمكنة التي تقصد
وتعظم ويسافر لأجلها .
فأما السفر لتجارة ، أو جهاد ، أو طلب علم ، أو زيارة أخ في الله ، أو صلة رحم ،
ونحو ذلك ، فإنها لم تدخل في الحديث ؛ لأن تلك لا يقصد فيها مكان معين ، بل المقصود
ذلك المطلوب حيث كان صاحبه ، ولهذا لم يفهم أحد من هذا هذه الأمور .
بخلاف السفر إلى البقاع المعظَّمة ، كطور موسى ، وكقبور الأنبياء والصالحين ، فإن
الصحابة والتابعين والأئمة فهموا دخولها في هذا الحديث ، ولم يكن في السلف من ينكر
دخولها في الحديث ، ودخولها على أحد وجهين :
إن قيل : إن المستثنى منه جنس البقاع المعظمة ، فقد دخلت هذه .
وإن قيل : إن المستثنى منه هو المساجد ، فلا ريب أنه إذا لم يشرع السفر إلى المساجد
، فلا يشرع إلى هذه بطريق الأولى ؛ فإن المساجد أفضل البقاع " انتهى باختصار من "
قاعدة عظيمة في الفرق بين عبادات أهل الإسلام والإيمان وعبادات أهل الشرك والنفاق "
(ص94) .
فانظر كيف فرق شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمه الله بين السفر لتعظيم بقعة ( مكان ) مقصود بالعبادة والتعظيم ،
فيمنع حينئذ ، وبين السفر لحاجة مشروعة أخرى لا يقصد فيها ذات المكان ، وإنما
المراد الحاجة التي سافر لأجلها ، كالتجارة أو طلب العلم أو صلة الرحم ونحو ذلك .
فلا يصح إلزام القائلين بتحريم السفر إلى القبور أن يحرموا السفر لحضور معرض الكتاب
، أو غيره من المعارض والحاجات المباحة ، ولم نجد من العلماء من يقول بهذا الإلزام
، ولا نرى سببه إلا ضعف الاطلاع على حقيقة قول المانعين ، الذي انتصر له شيخ
الإسلام ابن تيمية ، وكان مثار خلاف عبر قرون متطاولة ؛ لكن أحدا لم يفكر في هذا
الإلزام الركيك أصلا !!
وانظر جواب السؤال رقم: (10011)
، (133992) .
والله أعلم .
H