الحمد لله.
إذا مات الميت وترك مالاً فالواجب على ورثته أن يبدؤوا بتجهيزه وتكفينه من التركة ,
ثم بعد ذلك يلزمهم إخراج الديون من التركة , ثم إخراج الوصايا من ثلث التركة , إن
كان قد أوصى في ماله بشيء ؛ كل ذلك قبل قسمة التركة على من يستحقها من الورثة ,
والدليل على ذلك قوله تعالى: ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ
مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ....) إلى قوله تعالى : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي
بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) النساء/11.
وللاستزادة ينظر جواب سؤال رقم : (194033)
.
وبناء على ما سبق : فإن الواجب على الورثة أن يسارعوا إلى إبراء ذمة والدهم بسداد
الديون من التركة قبل قسمتها ، حتى قال العلماء ـ رحمهم الله ـ يكون العمل بوصيته
وسداد ديونه قبل دفنه ؛ وذلك لعظم شأن الدين ، فإن تعذر ردُّ الديون في الحال ؛
لعدم وجود النقد أو لبعد المال : استحب لورثته أن يضمنوا عن أبيهم حق الغير ، فإن
تأخروا أو امتنعوا عن قضاء ديونه : أثموا بجحد الحق ، أو مطله ، ما دام الميت قد
ترك وفاءه من ماله .
قال البهوتي رحمه الله : " ( ويجب أن يسارع في قضاء دينه ، وما فيه إبراء ذمته ؛ من
إخراج كفارة ، وحج نذر ، وغير ذلك ) ، كزكاة ، ورد أمانة ، وغصب ، وعارية ؛ لما روى
الشافعي وأحمد والترمذي وحسنه ، عن أبي هريرة مرفوعاً : ( نفس المؤمن معلقة بدينه
حتى يقضى عنه ) .. ( كل ذلك ) أي قضاء الدين وإبراء ذمته , وتفريق وصيته ( قبل
الصلاة عليه ) لأنه لا ولاية لأحد على ذلك إلا بعد الموت والتجهيز. وفي الرعاية :
قبل غسله ، والمستوعب : قبل دفنه ؛ ويؤيد ما ذكره المصنف : ما كان في صدر الإسلام
من عدم صلاته صلى الله عليه وسلم على من عليه دين , ويقول : ( صلوا على صاحبكم )
إلى آخره ، كما يأتي في الخصائص ( فإن تعذر إيفاء دينه في الحال ) ، لغيبة المال
ونحوها : ( استحب لوارثه أو غيره أن يتكفل به عنه ) لربه , بأن يضمنه عنه , أو يدفع
به رهناً , لما فيه من الأخذ في أسباب براءة ذمته ، وإلا فلا تبرأ قبل وفائه , كما
يأتي " انتهى .
قال الحجاوي رحمه الله : "وإنفاذ وصيته ويجب الإسراع في قضاء دينه
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
قوله: " وإنفاذ وصيته " ، " إنفاذ " بالكسر عطفا على " تجهيز " ، أي : وإسراع إنفاذ
وصيته ، أما إنفاذ وصيته فهو واجب ، لكن إسراع الإنفاذ ، إما واجب أو مستحب ؛ لأن
الوصية إن كانت في واجب : فللإسراع في إبراء ذمته ، وإن كانت في تطوع فلإسراع الأجر
له ، والوصية إما واجبة وإما تطوع .
قال أهل العلم : فينبغي أن تنفذ قبل أن يدفن ، سبحان الله إذا رأيت هذا الكلام ،
ورأيت ما يفعله بعض الظلمة من الورثة الذين يؤخرون وفاء الدين عن الميت لمصالحهم
الخاصة ، فتجد الميت عليه ديون ووراءه عقارات ، فيقولون: لا نبيعها؛ بل نوفيه من
الأجرة ، ولو بعد عشر سنين ، أو يقولون: الأراضي ، مثلاً كسدت الآن فننتظر حتى
ترتفع قيمتها ، وربما ترتفع قيمتها ، وربما تنزل ، وهذا ظلم ـ والعياذ بالله ـ ،
وربما يكون هؤلاء من ذرية الميت ، فيكون فيه من العقوق ما لا يخفى على أحد ؛ لأن
الميت يتأثر بالدين الذي عليه ...
فالوصية بالواجب : يجب المبادرة بإنفاذها ، وبالتطوع يسن ، لكن الإسراع بذلك مطلوب
، سواء أكانت واجبة أم مستحبة قبل أن يصلى عليه ويدفن ، هذه هي السنة .
قوله : " ويجب الإسراع في قضاء دينه " ، أي دين الميت ، سواء كان هذا الدين لله ،
أو للآدمي .
فالدين لله مثل: الزكاة ، والكفارة ، والنذر ، وما أشبه ذلك .
والدين للآدمي : كالقرض ، وثمن المبيع ، والأجرة ، وضمان تالف ، وغير هذا من حقوق
الآدميين فيجب الإسراع بها بحسب الإمكان ، فتأخيرها حرام .
والدليل: أثري ونظري:
أما الأثري : فقول النبي صلى الله عليه وسلم: " نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى
عنه " ، فهذا الحديث فيه ضعف ، لكن يؤيده حديث أبي قتادة " في الرجل الذي جيء به
إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل : ( هل عليه دين؟ ) ، قالوا: نعم ديناران ،
فتأخر ولم يصل عليه، فقال أبو قتادة : الديناران علي يا رسول الل ه، قال : ( حق
الغريم وبرئ منهما الميت؟ ) قال: نعم ، فتقدم فصلى ) .
وأما الدليل النظري : فلأن الأصل في الواجب المبادرة بفعله ، ولا يجوز تأخير الواجب
إلا إذا اقتضى الدليل تأخيره " انتهى من "الشرح الممتع"(5/260) .
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي حفظه الله : " ومن هنا يأثم الورثة بتأخير سداد
الديون ، فإذا مات الوالد أو القريب وقد ترك مالاً أو ترك بيتاً ، وعليه دين : فيجب
على الورثة أن يبيعوا البيت لسداد دينه ، وهم يستأجرون ، أو يقومون بما يكون حظاً
لهم من الاستئجار أو الانتقال إلى مكان آخر ، أما أن يبقى الدين معلقاً بذمته وقد
ترك المال والوفاء : فهذا من ظلم الأموات ، وإذا كان بالوالدين فالأمر أشد ؛ وقد
ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن نفس المؤمن معلقة بدينه ) قال بعض
العلماء : إن الإنسان إذا كان عليه دين فإنه يمنع عن النعيم حتى يؤدى دينه ، ولذلك
قال : ( نفس المؤمن مرهونة بدينه ) وفي رواية ( معلقة بدينه ) بمعنى: أنها معلقة عن
النعيم حتى يقضى دينه .
ويؤكد هذا حديث أبي قتادة رضي الله عنه في الصحيح ، فإنه لما جيء برجل إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام: ( هل ترك ديناً؟ ) قالوا :
دينارين.
فقال: ( هل ترك وفاء ؟ ) .
قالوا : لا .
قال : ( صلوا على صاحبكم ).
فقال أبو قتادة : هما علي يا رسول الله! فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، قال
أبو قتادة : فلم يزل يلقني ويقول : ( هل أديت عنه ؟ ) ، فأقول: لا بعد.
حتى لقيني يوماً ، فقال : ( هل أديت عنه ؟ ) .
قلت : نعم .
قال : ( الآن بردت جلدته ) فهذا يدل على عظم أمر الدين ، فينبغي المبادرة بقضاء
الديون وسدادها ، خاصة ديون الوالدين فالأمر في حقهم آكد .
والله تعالى أعلم. " انتهى من "شرح الزاد".
ثانياً :
بعد قضاء ديون الميت توزع التركة بين ورثته على النحو التالي:
للزوجتين : الثمن لوجود الفرع الوارث ، فيقسم بينهما بالتساوي ، وهذا بإجماع أهل
العلم .
ينظر : "المغني" لابن قدامة (6/171) .
ثم تقسم باقي التركة بين أبناء الميت ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، سواء في ذلك
الأشقاء ، أو الإخوة لأب ، فكلهم يستوون في استحقاق نصيبهم من تركة الوالد ؛ قال
تعالى : ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الأُنْثَيَيْنِ ) النساء/11 .
فإن امتنع بعض الورثة من
سداد الدين : منعوا من نصيبهم من التركة ، حتى يقضى دين الميت ، ولم يمكنوا من
التصرف فيه .
ولأصحاب الدين أن يقاضوهم في ذلك ، ويمنعوا تصرف الورثة في التركة حتى يأخذوا حقهم
.
والله أعلم .