الحمد لله.
ثالثا :
لم يجعل الله جل جلاله ، لأحد من خلقه مشيئة ، أو اختيارا ، في تدبير أمر الكون ،
وتصريف شؤون الخلائق ؛ فالخلق جميعا مخلوقون مربوبون ، مصرفون ، مدبرون ، وهو
سبحانه القادر القاهر ، يصرفهم بقدرته ، وعلمه ، وحكمته ، وهو سبحانه ، على صراط
مستقيم ، لا يفعل إلا الخير ، ولا يأمر إلا بالعدل ؛ لا يظلم الناس شيئا ، ولكن
الناس أنفسهم يظلمون .
قال تعالى : ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ
مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
لَهُ الْحَمْدُ فِي الأولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )
القصص/68-70 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" هذه الآيات ، فيها عموم خلقه لسائر المخلوقات ، ونفوذ مشيئته بجميع البريات ،
وانفراده باختيار من يختاره ويختصه ، من الأشخاص ، والأوامر والأزمان والأماكن ،
وأن أحدا ليس له من الأمر والاختيار شيء ، وأنه تعالى منزه عن كل ما يشركون به ، من
الشريك ، والظهير ، والعوين ، والولد ، والصاحبة ، ونحو ذلك ، مما أشرك به المشركون
، وأنه العالم بما أكنَّته الصدور وما أعلنوه ، وأنه وحده المعبود المحمود في
الدنيا والآخرة ، على ماله من صفات الجلال والجمال ، وعلى ما أسداه إلى خلقه من
الإحسان والإفضال .
وأنه هو الحاكم في الدارين ، في الدنيا ، بالحكم القدري ، الذي أثره جميع ما خلق
وذرأ ، والحكم الديني ، الذي أثره جميع الشرائع ، والأوامر والنواهي .
وفي الآخرة يحكم بحكمه القدري والجزائي ، ولهذا قال: وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " .
انتهى من "تفسير السعدي" (622) .
ثالثا :
لا شك أن السائل إنما أتي من التحكم على الله بعقله القاصر ، واختياره ، وهواه ،
ونسي أن يرد ذلك بالمحكمات السابقات التي إن اختل شيء منها ، لم يصح لعبد إيمانه ،
ولم يبق فائدة في الحديث معه حول ذلك ، وإذا استقرت في قلبه ، دفع بها ما يوسوس له
الشيطان في ذلك .
ولو تأمل العبد قليلا ، لوجد بطلان ما ذكر هنا ، وعلم أن ما ألقاه الشيطان في قلبه
من ذلك هو : شبهة ساقطة ، وحجة داحضة .
فمن قال لك ـ يا عبد الله ـ إن من مات صغيرا : لو عاش ، لآمن ، أو أحسن في عمله ؛
ولمَ لا يكون العكس : أنه لو عاش ، لاستمرأ بغيه وعدوانه ، واستزاد من سيئاته ؟!
أليس من الجائز أن يكون ذلك أخف لحسابه ، وعذابه ؟!
إن الله عز وجل لم يحك عن أحد من أهل النار أنه يعترض على ربه ، وهو في النار ويقول
" ظلمتني وما أنصفتني " ؛ بل كلٌّ فيها معترف بذنبه مقر بخطيئته ، يعلم أن النار
أولى به من الجنة .
قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ
مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ *
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ
فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ) غافر/ 10، 11.
فهم يصطرخون فيها ويطلبون الرجعة ويمقتون أنفسهم أشد المقت ، ولا يرد بخاطرة أحدهم
أن الله ظلمه شيئا فيعن له التظلم وسؤال الله العدل .
إنهم إنما يطلبون ذلك على سبيل الأماني ، والتماس الرأفة والعفو عن جرائمهم ؛ لا
أنه حق لهم فاتهم ، وظلموا بالحرمان منه ؛ تعالى الله عن كل عيب ونقصان !!
ثم إن الله تعالى أخبر عنهم أنه لا فائدة من هذه الأمنية الباطلة ، بل لا تزيدهم
إلى خسارا ، وبوارا !!
قال تعالى : ( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا
نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ
بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا
نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) الأنعام/27، 28 .
وتأمل قول الله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى
عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي
كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ
صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ
فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ
نَصِيرٍ * إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ
بِذَاتِ الصُّدُورِ ) فاطر/ 36- 38 .
تأمل ذلك ، لتعلم أن الحجة إنما كانت لربهم عليهم ؛ فقد طلبوا مدة أخرى ، وطلبوا
إمهالا ، ونظرة ، على وجه الرأفة ، والتفضل والإنعام ؛ فرد الله عليهم أن ما أعطاهم
كان كافيا لهم ، وقد قامت عليهم به الحجة ، وانقطع به عذرهم ؛ كما قال تعالى في
الآية الأخرى : ( وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ
لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ ) الشورى/16 .
ولأجل ذلك قال الله تعالى : ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا
أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
بِالشَّاكِرِينَ ) الأنعام/ 53 .
وقال تعالى أيضا : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ
الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ
وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ) الأنفال/ 22، 23 .
وتأمل ذلك الجواب ، لصاحب من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، عن شبهة قريبة من ذلك ، لتعلم أنه ليس فيها هذه
الشبهة من جديد ، وليس فيها من حق لأحد ، ولا حجة له على ربه ؛ بل الحجة التامة لله
على خلقه وعبيده :
روى الإمام أحمد (23810) عن جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ : " جَلَسْنَا إِلَى
الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ يَوْمًا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : طُوبَى
لِهَاتَيْنِ الْعَيْنَيْنِ اللَّتَيْنِ رَأَتَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاللهِ لَوَدِدْنَا أَنَّا رَأَيْنَا مَا رَأَيْتَ ،
وَشَهِدْنَا مَا شَهِدْتَ ، فَاسْتُغْضِبَ ، فَجَعَلْتُ أَعْجَبُ ، مَا قَالَ
إِلَّا خَيْرًا ، ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيْهِ، فَقَالَ :
" مَا يَحْمِلُ الرَّجُلُ عَلَى أَنْ يَتَمَنَّى مَحْضَرًا غَيَّبَهُ اللهُ عَنْهُ
، لَا يَدْرِي لَوْ شَهِدَهُ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ فِيهِ، وَاللهِ لَقَدْ حَضَرَ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْوَامٌ كَبَّهُمُ اللهُ عَلَى
مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ لَمْ يُجِيبُوهُ ، وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ ، أَوَلَا
تَحْمَدُونَ اللهَ إِذْ أَخْرَجَكُمْ لَا تَعْرِفُونَ إِلَّا رَبَّكُمْ ،
مُصَدِّقِينَ لِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ ، قَدْ كُفِيتُمُ الْبَلَاءَ
بِغَيْرِكُمْ ، وَاللهِ لَقَدْ بَعَثَ اللهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى أَشَدِّ حَالٍ بُعِثَ عَلَيْهَا فِيهِ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ
فِي فَتْرَةٍ وَجَاهِلِيَّةٍ ، مَا يَرَوْنَ أَنَّ دِينًا أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ
الْأَوْثَانِ ، فَجَاءَ بِفُرْقَانٍ فَرَقَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ،
وَفَرَّقَ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَرَى
وَالِدَهُ وَوَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ كَافِرًا ، وَقَدْ فَتَحَ اللهُ قُفْلَ قَلْبِهِ
لِلْإِيمَانِ ، يَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ هَلَكَ دَخَلَ النَّارَ، فَلَا تَقَرُّ
عَيْنُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ حَبِيبَهُ فِي النَّارِ "، وَأَنَّهَا لَلَّتِي
قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ
أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) الفرقان/ 74 .
وصححه الألباني في "الصحيحة" (2823) .
فتعوذ بالله ، يا عبد الله ،
من وساوس الشيطان ، وكيده لك ، ومكره بك ، واعتصم بالله من شره ، ونزغه ، وانته عما
يلقيه في نفسك من الشبهات والوساوس ، وأكثر من ذكر ربك ، وأعظم اللجأ إليه .
راجع للاستزادة جواب السؤال رقم : (110439)
، (126807) ، (13610)
.
والله تعالى أعلم .