الحمد لله.
قال علماء اللجنة :
" الأصل في الأمور الغيبية: اختصاص الله بعلمها، لكن الله تعالى يطلع من ارتضى من
رسله على شيء من الغيب، قال الله تعالى: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ) الجن/26،27 " انتهى من "فتاوى اللجنة
الدائمة" (1 /122-123)
فهذا الذي يطّلع عليه الرسول من أمر الغيب إنما هو من وحي الله تعالى ؛ ولذلك قال
الله عز وجل : ( قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ
الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى
إِلَيَّ ) الأنعام/ 50
قال علماء اللجنة الدائمة :
" علم المغيبات من اختصاص الله تعالى فلا يعلمها أحد من خلقه لا جني ولا غيره إلا
ما أوحى الله به إلى من شاء من ملائكته أو رسله " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة"
(1 /346)
فالنبي صلى الله عليه
وسلم لا يعلم الغيب ؛ كما هو ظاهر قوله تعالى : ( قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي
خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ) ولكن الله عالم الغيب يطلعه منه على
ما يشاء ، كما قال تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) .
قال القرطبي رحمة الله عليه :
" قَالَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: لَمَّا تَمَدَّحَ سُبْحَانَهُ
بِعِلْمِ الْغَيْبِ ، وَاسْتَأْثَرَ بِهِ دُونَ خَلْقِهِ، كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ أَحَدٌ سِوَاهُ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مَنِ
ارْتَضَاهُ مِنَ الرُّسُلِ، فَأَوْدَعَهُمْ مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ ، بِطَرِيقِ
الْوَحْيِ إِلَيْهِمْ، وَجَعَلَهُ مُعْجِزَةً لَهُمْ ، وَدِلَالَةً صَادِقَةً عَلَى
نُبُوَّتِهِمْ " انتهى من "تفسير القرطبي" (19/ 28)
وانظر جواب السؤال رقم : (101968) .
ثانيا :
روى البخاري (418) ومسلم (424) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم قَالَ ( هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا ، فَوَاللَّهِ مَا
يَخْفَى عَلَىَّ خُشُوعُكُمْ وَلاَ رُكُوعُكُمْ ، إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ
ظَهْرِي ) .
قال النووي رحمه الله :
" قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ لَهُ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِدْرَاكًا فِي قَفَاهُ يُبْصِر بِهِ مِنْ وَرَائِهِ , وَقَدْ
اِنْخَرَقَتْ الْعَادَة لَهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْثَر مِنْ
هَذَا , وَلَيْسَ يَمْنَع مِنْ هَذَا عَقْل وَلَا شَرْع , بَلْ وَرَدَ الشَّرْع
بِظَاهِرِهِ فَوَجَبَ الْقَوْل بِهِ "
انتهى .
وهذه من المعجزات والآيات التي أيّد الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، وخصه بها ،
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله :
" ليس المراد منه : أنه كان يلتفت ببصره في صلاته إلى من خلفه ، حتى يرى صلاتهم ،
كما ظنه بعضهم ، وقد رد الإمام أحمد على من زعم ذلك ، وأثبت ذلك من خصائص النبي صلى
الله عليه وسلم وآياته ومعجزاته " انتهى من "فتح الباري" - لابن رجب (4 /341)
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" الصَّوَابُ الْمُخْتَارُ : أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَأَنَّ هَذَا
الْإِبْصَارَ إِدْرَاكٌ حَقِيقِيٌّ خَاصٌّ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، انْخَرَقَتْ لَهُ فِيهِ الْعَادَةُ ، وَعَلَى هَذَا عَمَلُ الْمُصَنِّفِ ،
فَأَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، وَكَذَا نُقِلَ عَنْ
الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ " انتهى.
والحاصل :
أن هذا الأمر : هو من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعجزاته ؛ لكن هذا لا
ينفي ما قدمناه من اختصاص الله بعلم الغيب ؛ فإنا قد قررنا أن الله قد يطلع من شاء
من رسله ، على ما شاء من أمور الغيب ؛ وحينئذ : يعلم الرسولُ من أنباء الغيب ، ما
أعلمه به ربه ، سبحانه .
على أن المذكور في هذا الحديث : ليس من علم الغيب في شيء ، ولم يقل رسول الله صلى
الله عليه وسلم لأصحابه : إني أعلم ما غاب عن بصري ، أو أعلم كذا وكذا ؛ بل هذا
الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمر موجود ، مشهود ؛ كل ما في الأمر : أن
العادة قد جرت ألا يرى الإنسان إلا ما يقابله ؛ والرسول صلى الله عليه وسلم ، في
هذا المقام : رأى ما وراء ظهره ، فانخرقت العادة ، وصحت له الرؤية ، مع تخلف بعض
شروطها .
والله تعالى أعلم .