الحمد لله.
أولا :
إذا كان الجنود بأرض المعركة وليس ثمة قتال ، ولا يخافون بغتة العدو فإنهم يصلون
الصلاة بهيئتها المعروفة ؛ فإن كانوا مسافرين صلوا صلاة مسافر ، وإن كانوا في بلدهم
صلوا صلاة مقيم ، فإن صافوا العدو أو خافوا بغتته صلوا صلاة الخوف .
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله :
هل يشرع لبعض الجنود الذين يعملون على بعض الأسلحة في الجبهة : أن يصلوا صلاة الخوف
، وكيف يكون ذلك رغم عدم قيام الحرب ؟
فأجاب : " ليس لهم صلاة الخوف إلا إذا كانوا مصافي العدو ، أو يخافون هجومه " انتهى
من "مجموع فتاوى ابن باز" (30/ 227) .
وقال أيضا رحمه الله :
" صلاة الحرب مختلفة ، إن كان مسافرا ليس في بلده فإنه يصلي صلاة قصر، يصلي ثنتين ،
الظهر ثنتين ، والعصر ثنتين ، والعشاء ثنتين كسائر المسافرين ، والسنة لهم أن
يصلوها كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم ، يصلونها جماعة ، والواجب أن يصلوها
جماعة مع القدرة بإمام ، فيصلي بهم ركعتين ، وإذا كان العدو في القبلة يصلي بهم
جميعا ويركع بهم جميعا ، ثم يسجد بالصف الأول ، ويبقى الصف الثاني يراقب لئلا يهجم
العدو، فإذا قام الصف الأول من السجود ، سجد الصف الثاني ، كما فعله الصحابة مع
النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم بعد ذلك يتقدم الصف الثاني ويتأخر الصف الأول ،
ويصلي بهم جميعا ويركع بهم جميعا، ثم يسجد بالصف الأول الذي كان مؤخرا في الركعة
الأولى، ويقف الصف الثاني الذي هو مقدم في الأولى ، يقف ينتظر وينظر ويحرس ، فإذا
قام الصف الأول من سجوده سجد الصف الثاني، ثم سلم بهم جميعا. هذا نوع من صلاة الخوف
، وهناك أنواع أخرى .
فإذا لم يستطيعوا صارت الحرب شديدة ، والاختلاط بين العدو وخصمه ، فإنهم يصلون
رجالا وركبانا ولو بالإيماء ، كل يصلي لنفسه مستقبل القبلة ، وغير مستقبلها عند
الضرورة كما قال الله جل وعلا : (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا) ،
وأما إن كان الحرب في الحضر في بلد الإقامة فإنه يصلي أربعا كسائر المقيمين ، ولا
يصلي ثنتين، إنما هذا في السفر خاصة " .
انتهى باختصار من "فتاوى نور على الدرب" (13/ 130-132) .
ثانيا :
تقدم في جواب السؤال رقم : (36896) بيان صفة صلاة الخوف عند لقاء العدو .
فمن كان في أرض المعركة بمواجهة العدو فالمشروع في حقه صلاة الخوف على ما هو مبين
في وصفها ، فإن لم يستطع ، كأن يكون في حال المسايفة صلى بحسب حاله وقدرته كما تقدم
، ولا يؤخرها إلا عند الضرورة .
وقال الحافظ العراقي رحمه الله :
" قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ : ... وَالصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ
صَلَاتُهَا عَلَى سُنَّتِهَا إذَا أَمْكَنَ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِحَسَبِ
قُدْرَتِهِ وَلَا يُؤَخِّرُهَا .." .
وقال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (2/ 309) :
" إذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ ، وَالْتَحَمَ الْقِتَالُ ، فَلَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا
كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ ؛ رِجَالًا وَرُكْبَانًا ، إلَى الْقِبْلَةِ إنْ
أَمْكَنَهُمْ ، وَإِلَى غَيْرِهَا إنْ لَمْ يُمْكِنْهُمْ ، يُومِئُونَ بِالرُّكُوعِ
وَالسُّجُودِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ ، وَيَجْعَلُونَ السُّجُودَ أَخْفَضَ مِنْ
الرُّكُوعِ ، وَيَتَقَدَّمُونَ وَيَتَأَخَّرُونَ ، وَيَضْرِبُونَ وَيَطْعَنُونَ ،
وَيَكُرُّونَ وَيَفِرُّونَ ، وَلَا يُؤَخِّرُونَ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا.
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ " انتهى .
ثالثا :
من فاتته صلاة فأكثر بسبب انشغاله بالجهاد ، ولم يستطع أن يصليها حتى فات وقتها
فإنه يصليها بعد الوقت ، عند تمكنه من ذلك .
قال البخاري رحمه الله في "صحيحه" (2/ 15) :
" قَالَ الأَوْزَاعِيُّ : " إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الفَتْحُ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى
الصَّلاَةِ : صَلَّوْا إِيمَاءً ، كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ
يَقْدِرُوا عَلَى الإِيمَاءِ : أَخَّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ القِتَالُ ،
أَوْ يَأْمَنُوا ، فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا : صَلَّوْا
رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا لاَ يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ،
وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى يَأْمَنُوا " وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ ، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ: " حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ إِضَاءَةِ
الفَجْرِ، وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ القِتَالِ ، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ ،
فَلَمْ نُصَلِّ إِلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ
مَعَ أَبِي مُوسَى فَفُتِحَ لَنَا، وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : وَمَا يَسُرُّنِي
بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" الخوف له حالات متنوعة ، وإذا اضطر إلى أن يؤخر الصلاة عن وقتها : فالصواب أنه لا
حرج في ذلك ؛ لفعله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب، وقد فعله الصحابة في قتال
الفرس ، كما ذكر أنس رضي الله عنه أنهم في بعض الأيام التي لاقوا فيها العدو الفرس
عند فتح تستر ، فتحوها عند طلوع الفجر في وقت صلاة الفجر ، وشغل الناس عن الصلاة ؛
لأن بعضهم صار على السور ، وبعضهم على الأبواب ، وبعضهم نزلوا في البلد ، فاشتد
القتال والحصار ، فلم يتمكنوا من صلاة الفجر ، فأخروها حتى صلوها ضحى ، قال أنس رضي
الله عنه : فما أحب أن أعطى بها كذا وكذا ، يعني لأنا أخرناها لأمر شرعي ، وحاجة
شديدة وضرورة ، فلا حرج في هذا على الصحيح " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (7/
87-88) .
رابعا :
روى الترمذي (179) ، والنسائي (662) عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : " إِنَّ المُشْرِكِينَ شَغَلُوا
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ
الخَنْدَقِ ، حَتَّى ذَهَبَ مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ ، فَأَمَرَ بِلَالًا
فَأَذَّنَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصْرَ ،
ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى المَغْرِبَ ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العِشَاءَ" .
قال الترمذي عقبه : " وَفِي البَابِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ ، وَجَابِرٍ، وحَدِيثُ
عَبْدِ اللَّهِ لَيْسَ بِإِسْنَادِهِ بَأْسٌ ، إِلَّا أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمْ
يَسْمَعْ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ " .
وله شاهد عند النسائي (661) من حديث أبي سعيد الخدري قال : " شغلنا المشركون يوم
الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس ، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل ، فأنزل
الله عز وجل ( وكفى الله المؤمنين القتال) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا
: فأقام لصلاة الظهر ، فصلاها كما كان يصليها لوقتها ، ثم أقام للعصر فصلاها كما
كان يصليها في وقتها ، ثم أذن للمغرب فصلاها كما كان يصليها في وقتها " وصححه
الألباني في "صحيح النسائي" .
وروى البخاري (2931) ، ومسلم (627) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ: "
لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَحْزَابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : ( مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا ، شَغَلُونَا عَنِ
الصَّلاَةِ الوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ ) .
قال النووي رحمه الله :
" وَأَمَّا تَأْخِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ
الْعَصْرِ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ ، فَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ،
قَالَ الْعُلَمَاءُ : يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَّرَهَا نِسْيَانًا لَا عَمْدًا ،
وَكَانَ السَّبَبُ فِي النِّسْيَانِ الِاشْتِغَالُ بِأَمْرِ الْعَدُوِّ ،
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَخَّرَهَا عَمْدًا لِلِاشْتِغَالِ بِالْعَدُوِّ ، وَكَانَ
هَذَا عُذْرًا فِي تَأْخِيرِ الصَّلَاةِ قَبْلَ نُزُولِ صَلَاةِ الْخَوْفِ ،
وَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا بِسَبَبِ
الْعَدُوِّ وَالْقِتَالِ ؛ بَلْ يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ عَلَى حَسَبِ الْحَالِ
، وَلَهَا أَنْوَاعٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ هُنَا وَفِي الْبُخَارِيِّ أَنَّ
الصَّلَاةَ الْفَائِتَةَ كَانَتْ صَلَاةَ الْعَصْرِ ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَمْ
يَفُتْ غَيْرُهَا ، وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّهَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ ، وَفِي
غَيْرِهِ أَنَّهُ أَخَّرَ أَرْبَعَ صَلَوَاتٍ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ
وَالْعِشَاءَ حَتَّى ذَهَبَ هُوِيٌ مِنَ اللَّيْلِ ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ بَيْنَ
هَذِهِ الرِّوَايَاتِ : أَنَّ وَقْعَةَ الْخَنْدَقِ بَقِيَتْ أَيَّامًا فَكَانَ
هَذَا فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ ، وَهَذَا فِي بَعْضِهَا " انتهى من "شرح النووي على
مسلم" (5/ 130) .
والخلاصة :
أن المجاهدين إذا كانوا بمأمن من العدو ، ولم يكونوا في حال المصافة : فإنهم يصلون
الصلاة بهيئتها العادية ، كأنهم ليسوا في الحرب .
أما إذا صافوا العدو ، أو خشوا فجأته : فإنهم يصلون صلاة الخوف جماعة .
فإن اشتد القتال ، وعجزوا عن الصلاة : صلى كل منهم بحسب حاله .
فإن عجزوا عن ذلك أيضا ، واضطروا إلى تأخير الصلاة عن وقتها ، فإنهم يصلون بعد
الوقت عند الاستطاعة ، ولا شيء عليهم ، لكن ليس هذا من سنة صلاة الخوف الراتبة ، بل
هذا لمن نسي ، أو شغل فتعذر عليه الصلاة على وقتها.
والله تعالى أعلم .