لبس الطاقية ليس من العبادة ، ولا حرج فيه
قال الله تعالى في سورة آل عمران ، الآية (100) : ( يا أيها الذين ءامنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ) .
وبعد البحث والتقصي ظهر لي أن لبس الطاقية طوال الوقت من غير عمامة أمر بدعي ، شأنه في ذلك شأن بقية البدع كالمولد وغيره .. الخ ، وأن ذلك في الأساس صنيع اليهود المتدينين الذين يحرصون على لبسها ، وهي تُسمى عندهم " الكِبّة " ، وبالتالي ينبغي علينا تجنب هذا الفعل ، إلا أن تُلبس العمامة من فوقها ، وهناك حديث صحيح مفاده أن الفرق بيننا وبين المشركين هو لبس الطاقية تحت العمامة .
والغريب في الأمر أيضاً أن وشاح الرأس الذي يلبسه السعوديون ( الشماغ ) يشبه التاليت ( الشال ) الذي يلبسه اليهود حين يصلّون .
فأين نحن من كل النصوص والأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، التي يحذر فيها من مشابهة اليهود ، كالآية التي سقتها في صدر هذا السؤال . وكقوله تعالى : ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ، قل إن هدى الله هو الهدى..) ، وقوله : ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ، وما أنت بتابع قبلتهم..) ؟
إنني أتساءل : كيف اقتحمت هذه العادة اليهودية حياتنا ، وأصبحت جزءًا من ممارساتنا التعبدية ؟!
الجواب
الحمد لله.
أولا :
نود أن نبتدئ جوابنا بما انتهيت إلى الحديث عنه ، فنقرر ما قرره العلماء والفقهاء :
أن اللباس هو من الشأن الاعتيادي الذي لا يخضع لقاعدة التعبد ، وإنما لباب المباحات
التي وسع الله عز وجل فيها على الناس ، فلم يأمرهم بلباس خاص ، ولا بصفة معينة فيه
، إلا في مسائل معينة معروفة ومحصورة ، وما سوى ذلك فإنما أمر فيه بستر العورة ،
وفتَح الباب واسعا لاختلاف عادات الناس وما يناسب الزمان والمكان ضمن ضوابط شرعية
عامة .
ومن يدعي خلاف ذلك يعوزه الدليل الشرعي ، فالسنة النبوية ليس فيها حديث واحد يأمر
الناس بلباس محدد على صفة خاصة ، وليس فيها نهي عن شيء من عادات الناس بإطلاق في
هذا الباب ، وهكذا جاءت أقوال أكثر العلماء أيضا ، موافقة لأصل الإباحة والعفو الذي
أنعم الله به على الناس .
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
" العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي... قد تكون تلك
العوائد ثابتة ، وقد تتبدل...
والمتبدلة : منها ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح ، وبالعكس ، مثل كشف
الرأس ، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع ، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد
المشرقية ، وغير قبيح في البلاد المغربية ، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك ،
فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة ، وعند أهل المغرب غير قادح " انتهى من "
الموافقات " (2/489-499) .
وجاء في " فتاوى اللجنة الدائمة " (24/ 43):
" لبس العمامة من المباحات وليس بسنة ، والأولى أن تبقى على ما يلبسه أهل بلدك على
رؤوسهم من الغترة والشماغ ونحوه " انتهى .
عبد العزيز بن باز – عبد الله بن غديان – صالح الفوزان – عبد العزيز آل الشيخ – بكر
أبو زيد .
وجاء أيضا (24/46) :
" الغترة من أنواع لباس الرأس عند بعض الناس ، وهي من أمور العادات لا العبادات ،
وليست بضرورية في الدين ، ولا بسنة ، فمن شاء لبسها ، ومن شاء لبس غيرها من عمامة
ونحوها ، ومن شاء جمع بينهما ، كل ذلك وأمثاله لا حرج فيه ، إلا أنه لا يتشبه في
لباسه بالنساء ولا بالكفار فيما يخصهم ، ولا يغرب في لباسه ، فإنه قد يلفت الأنظار
، ويكون سببا في القيل والقال ، والسخرية والاستهزاء " انتهى .
عبد العزيز بن باز – عبد الرزاق عفيفي – عبد الله بن غديان – عبد الله بن قعود .
وسئلت اللجنة الدائمة السؤال الآتي :
هل صحيح أن تغطية الرأس ، كلبس الطاقية ، كوفية مثلا : سنة، ولا سيما عند أداء
الصلاة ؟
فأجابت :
" تغطية الرجل رأسه في الصلاة ليست من سننها " انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة "
(6/174)
عبد العزيز بن باز – عبد الرزاق عفيفي – عبد الله بن غديان - عبد الله بن قعود .
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" ستر الرأس في الصلاة ليس بواجب ، ولكن إذا كنت في بلد يعتاد أهله أن يلبسوا هذا ،
ويكون ذلك من تمام لباسهم : فإنه ينبغي أن تلبسه ؛ لقوله تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) .
فإذا كان من الزينة أن يضع الإنسان على رأسه شيئاً من عمامة أو غترة أو طاقية ،
فإنه يستحب له أن يلبسه حال الصلاة .
أما إذا كان في بلد لا يعتادون ذلك ، وليس من زينتهم ، فليبق على ما هو عليه " .
انتهى من " مجموع فتاوى ورسائل العثيمين " (12/294) .
ثانيا :
أما عن لباس " الطاقية "، و" الغترة " أو" الشماغ " المعروفة في أزمنتنا هذه ، فمن
المجازفة الكبيرة دعوى انقطاعها عن التراث العربي الإسلامي ، ونسبة مثل هذه الألبسة
إلى أمم أخرى كاليهود وغيرهم .
ووجه المجازفة في هذه الدعوى من جهتين اثنتين :
الجهة الأولى :
أن إثبات بدء لباس معين في أمة دون أخرى : من أصعب القضايا البحثية وأشكلها ،
فعوائد المجتمعات وممارساتها في الطعام واللباس والزواج والأمور الحياتية من
القضايا الضاربة القدم ، التي تتناقلها الشعوب عبر مئات السنين ، وتتوارثها الأجيال
من بعضها كذلك ، الأمر الذي جعل البحث في أصل لبسة معينة ، أو أكلة محددة : غاية في
الصعوبة ، خاصة مع فقر النقول ، وعدم عناية كتب التاريخ بهذه الأمور .
الجهة الثانية :
وهي الأهم والأظهر ، أن كتب التراث العربي ، ككتب المعاجم والآداب والتاريخ والفقه
والحديث وغيرها مليئة جدا بالاعتراف بـ " الطاقية " كلباس عربي معروف ومشهور ، وذكر
أشكال الطاقية المتنوعة ، وما تصنع منه من أنواع القماش ، وأحكام فقهية مترتبة
عليها ، وغير ذلك من الأمور الكثيرة ، بحيث يتعذر حصرها وتتبعها ، وهي بالتأكيد
تشمل صورا عديدة للطاقية ، إحدى أشكالها وأنواعها تلك القطعة من القماش التي تغطي
رؤوس الناس اليوم تحت الغترة أو بدون غترة .
ولها أيضا العديد من الأسماء ، كالقلنسوة ، والوقاية ، والعرقية ، والكوفية ،
والعمار ، وغيرها . ونحن ننقل هنا شيئا يسيرا جدا مما وقفنا عليه في هذا الباب ، من
غير تطرق لسياق الكلام ولا شرح أحكامه ، وإنما المقصود الشاهد هو إثبات هذا اللباس
في عرف الفقهاء والعلماء .
يقول ابن القيم رحمه الله :
" كل متصل ملامس يراد لستر الرأس ، كالعمامة ، والقبعة ، والطاقية ، والخوذة وغيرها
" .
انتهى من " زاد المعاد في هدي خير العباد " (2/ 225) .
ويقول البهوتي رحمه الله :
" لا يجوز المسح على العمامة الصماء ؛ لأنها لم تكن عمامة المسلمين ، ولا يشق نزعها
، أشبهت الطاقية " انتهى من " كشاف القناع عن متن الإقناع " (1/ 120) .
وجاء فيه أيضا (1/113) :
" لا يجوز المسح على الوقاية ؛ لأنه لا يشق نزعها ، فهي كطاقية الرجل " .
ويقول ابن قدامة رحمه الله :
" وَلَا يَجُوزُ الْمَسْحُ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ ، الطَّاقِيَّةِ ، نَصَّ عَلَيْهِ
أَحْمَدُ ، قَالَ هَارُونُ الْحَمَّالُ : سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ
الْمَسْحِ عَلَى الْكَلْتَةِ ؟ فَلَمْ يَرَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا لَا تَسْتُرُ
جَمِيعَ الرَّأْسِ فِي الْعَادَةِ ، وَلَا يَدُومُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا
الْقَلَانِسُ الْمُبَطَّنَاتُ ، كَدَنِيَّاتِ الْقُضَاةِ ، وَالنَّوْمِيَّاتِ،
فَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، قَالَ أَحْمَدُ: لَا يَمْسَحُ عَلَى
الْقَلَنْسُوَةِ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِالْمَسْحِ عَلَى
الْقَلَنْسُوَةِ ، إلَّا أَنَّ أَنَسًا مَسَحَ عَلَى قَلَنْسُوَتِهِ؛ وَذَلِكَ
لِأَنَّهَا لَا مَشَقَّةَ فِي نَزْعِهَا، فَلَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهَا
كَالْكَلْتَةِ؛ وَلِأَنَّهَا أَدْنَى مِنْ الْعِمَامَةِ غَيْرِ الْمُحَنَّكَةِ
الَّتِي لَيْسَتْ لَهَا ذُؤَابَةٌ .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ: إنْ مَسَحَ إنْسَانٌ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ لَمْ
أَرَ بِهِ بَأْسًا؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ، فِي رِوَايَةِ الْمَيْمُونِيِّ أَنَا
أَتَوَقَّاهُ . وَإِنْ ذَهَبَ إلَيْهِ ذَاهِبٌ لَمْ يُعَنِّفْهُ . قَالَ
الْخَلَّالُ : وَكَيْفَ يُعَنِّفُهُ ؟ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَسَانِيدَ
صِحَاحٍ ، وَرِجَالٍ ثِقَاتٍ ، فَرَوَى الْأَثْرَمُ ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عُمَرَ ،
أَنَّهُ قَالَ : إنْ شَاءَ حَسِرَ عَنْ رَأْسِهِ ، وَإِنْ شَاءَ مَسَحَ عَلَى
قَلَنْسُوَتِهِ وَعِمَامَتِهِ ، وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّهُ
خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ ، فَمَسَحَ عَلَى الْقَلَنْسُوَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ
مُعْتَادٌ يَسْتُرُ الرَّأْسَ ، فَأَشْبَهَ الْعِمَامَةَ الْمُحَنَّكَةَ ،
وَفَارَقَ الْعِمَامَةَ الَّتِي لَيْسَتْ مُحَنَّكَةً وَلَا ذُؤَابَةَ لَهَا؛
لِأَنَّهَا مَنْهِيٌّ عَنْهَا." انتهى من "المغني"(1/ 222) .
فتأمل هذا النص المهم : كيف أن المسألة لم تكن في بحث الفقهاء لها فحسب ، بل رووا
لبسها بالأسانيد عن : عمر ، وأبي موسى ، وعن أنس أيضا ، من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم.
ويقول قليوبي رحمه الله :
" أو عمامة أو مقنعة أو طرحة ، لا قلنسوة ، وقبع ، وطاقية ، وفصادية ، وعصابة....
العرقية المعروفة بالطاقية " انتهى من " حاشية على شرح المحلي " (4/275) .
وجاء في " حاشية الشرواني " (8/311):
" كوفية : هي الطاقية التي تلبس في الرأس تحت الخمار " انتهى .
وجاء في " الغرر البهية في شرح البهجة الوردية " (4/ 390):
" قال الأذرعي : لا يجب ما يسمى طاقية ، أو كوفية ونحوها ، مما تلبسه تحت المقنعة ،
وهو لها بمنزلة القلنسوة للرجل تحت العمامة " انتهى.
ويقول الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله :
" القلنسوة : هي ما يغطي الرأس من قبع وطاقية ونحوهما " .
انتهى من " أسنى المطالب في شرح روض الطالب " (2/ 319) .
وقال ابن سيده :
" العَمار : كل شيء على الرأس من عمامة أو قلنسوة أو غير ذلك ".
انتهى من " المحكم " (2/150) .
ويقول الشيخ الدردير إمام المالكية في زمانه :
" وتغطية رأسه ولو بكمه أو طاقية ". وعلق عليه الدسوقي في " الحاشية " فقال : "
تغطية رأسه أي حال قضاء الحاجة . وقيل لا يحصل ندب تغطية الرأس إلا إذا كانت برداء
ونحوه ، زيادة على ما اعتاده في الوضع على رأسه من طاقية ونحوها ، وهذا ضعيف ،
والمعتمد الأول كما قرره الشارح " انتهى من " حاشية الدسوقي مع الشرح الكبير " (1/
106) .
وبعد ذلك كله لا نظن أن قولك في السؤال " كيف اقتحمت هذه العادة اليهودية حياتنا ،
وأصبحت جزءًا من ممارساتنا التعبدية " له وجه صحيح ، أو يقف على ما يسنده من كتب
التاريخ والآثار ، ويتبين أيضا أن من المجازفة الغريبة تشبيه ألبسة تعتادها شعوب
كاملة في تراثها وحاضرها بلباس لأتباع اليهودية بدعوى التشابه في الشكل .
ثم يقال : ولم لا يكون العكس هو الصحيح ، وأن اليهود أخذوا عادة تغطية الرأس من
مخالطتهم العرب في الجزيرة العربية ، وعنهم انتقلت تلك العادة إلى المتدينين منهم ،
ولم لا تكون عمائم الهندوس والسيخ والبوذيين ، مستنسخة عن عمائم العرب ! أترى أن
مثل هذه الدعاوى مقبولة ، ومطلقها مصدق مقبول !!
فالحاصل المقصود : أن شؤون اللباس من الأمور المشتركة بين كثير من الأمم ، وأنه من
الصعوبة بمكان : الجزم بأصل غطاء الرأس في أي الأمم ، فضلا عن التفصيل في أشكال
أغطية الرأس وجذور كل منها .
فحري بمن يطلب العلم والفائدة ، وينصح لنفسه وإخوانه : ألا يتسرع بإطلاق الأحكام
والإنكار على الآخرين ، ولا يتعجل بمخالفة المعروف والمألوف ، مما تعارف عليه الناس
وفيهم العلماء والحكماء والفقهاء .
وللتوسع ينظر : (151146)
، (108255) .
والله أعلم .