الحمد لله.
لا ينبغي للعاقل أن يقف كثيرا عند كل طرح جزئي ، وشبهات في التفاصيل ، ولو فعل ذلك
لضاع الزمان ، وانقضت الأيام ، ولم يقض شيئا من المهمات ، إذ الأهم من جواب وساوس
المترددين والمتشككين السعي في البناء ، ونشر الحق والفضيلة ، فالوقت لا ينتظر ،
وما يورده هؤلاء ليس مبنيا على بحث جاد ، أو حوار صادق هادف للحق أينما كان ؛ إنما
هي وساوس من وساوس شياطين الإنس والجن ، منهم من يعلم أنها لا قيمة لها في الوزن
العلمي ، ومنهم من لُبِّس عليه أمره ، وأتى الأمر من غير بابه ، واستعجل القول قبل
أوانه !!
ومما ينبغي أن يعلم : أن تفريغ الكلمات من مضامينها حيلة معروفة ، وشبهة ساقطة ،
حكاها الله عز وجل عن اليهود في القرآن الكريم ، وذلك حين أمرهم سبحانه وتعالى بذبح
( بقرة )، هكذا بإطلاق ، فكان جوابهم كما ورد في سؤالك ، أن ( البقرة ) كلمة مطاطية
تحتمل الكثير من أعيان الأبقار فقالوا : ( ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا
هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ
لَمُهْتَدُونَ ) البقرة/70.
رغم أن الواقع العملي لكل العقلاء يقضي بأخذ الكلام على ظاهره ، وعلى حدوده
التقريبية – وليس الحدية – المعروفة بين الناس ، وإلا ضاعت سائر مصالح الناس في
معاشهم ومعادهم ، ودينهم ودنياهم ، ولكنهم لبسوا على أنفسهم ، ونسبوا التقصير
للمفاهيم ، وللخطاب الإلهي لهم ، فكان ما كان من قصتهم .
أرأيت لو قال الطبيب للمريض: لا تجهد نفسك . فرفض المريض النصيحة وقال: كلمة ( تجهد
) مطاطية ، تحتمل أن لا أحمل الأثقال الشديدة ، وتحتمل أن لا أقوم عن فراشي ،
وتحتمل غير ذلك من أنواع الإجهاد ، فهل يكون كلامه مقبولا ! بل هل تجد في العقلاء
من يعامل الطبيب بهذه الأسئلة المتنطعة ! فلماذا نقبل هذه السفسطة الجدلية في
المصطلحات القرآنية أو الشرعية ! ولا نقبلها في حياتنا وأمور معاشنا !
أرأيت لو قال له : خذ الدواء في مواعيده ؛ فقال : الدواء كلمة مطاطية ، وأنا طول
عمري والأطباء يصفون لي الدواء ، فبأي دواء آخذ .. ، أو في أي يوم ، أو .. وأدخل
على نفسه التلبيس والوساوس ؛ أكان يقوم أمر الناس بشيء من ذلك ؟!
التبرج كلمة قرآنية ، وردت في قول الله عز وجل : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا
تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ) الأحزاب/33، ولم يستشكلها أحد
من الصحابة الكرام فيسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حدها وصورتها ؛ بل لم يقف
عندها أعداء الله من المكذبين ، والمنافقين : ليقولوا : عن أي تبرج يتحدث القرآن ؟!
ومع ذلك جاء الشرع الشريف ببيان ما يجب على المرأة تغطيته ، وأنه جميع جسدها – على
اختلاف بين العلماء في الوجه والكفين -، فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ
مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الأحزاب/59 ، وقال سبحانه : ( وَلَا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ ) النور/31.
وروى أبو داود في " السنن " (4104) من طريق سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن خالد بن
دريك ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي
بَكْرٍ ، دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : ( يَا أَسْمَاءُ! إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ
الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا وَهَذَا ) وَأَشَارَ
إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ " .
قَالَ أَبُو دَاوُدَ : هذا مرسل ، خالد بن دريك لم يدرك عائشة رضي الله عنها . ولكن
علق عليه البيهقي رحمه الله بقوله : " مع هذا المرسل : قول من مضى من الصحابة رضي
الله تعالى عنهم في بيان ما أباح الله من الزينة الظاهرة ، فصار القول بذلك قويا "
انتهى من " السنن الكبرى " (2/319)، وحسنه الشيخ الألباني بمجموع طرقه فقال : "
الحديث بمجموع الطريقين حسن ما كان منه من كلامه صلى الله عليه وسلم " انتهى من "
إرواء الغليل " (6/ 203).
وهكذا فإن الفهم السليم
يقتضي أن تحاكِم القائل إلى مصطلح نفسه ، وإلى بيانه وشرحه لأقواله التي يتحدث بها
، ولغة القوم الذين توجه بكلامه لهم ؛ وفي القرآن الكريم خير بيان وتوضيح لما ورد
فيه ، فقد قال الله عز وجل : ( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ ) آل عمران/138، وقال سبحانه : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )
النحل/44.
ثم إن أصحاب هذه الاعتراضات
على الحجاب أول من يكفرون باعتراضاتهم ، ويردون على شبهاتهم بأنفسهم ؛ لأن أحدا
منهم لا يقبل أن تعتمد المجتمعات في تنظيمها وتسيير شؤونها على الثقة بما في القلب
فحسب ، بل لا بد أن يجتمع إلى ذلك القانون الملزم الذي يستكمل الركن الأول في مسيرة
الصلاح ، ولذلك تجد في البلاد المتقدمة مؤسسات تشريعية فاعلة وقوية في وضع الأنظمة
وتأسيس القوانين ، وما في بلادنا العربية إلا جزء من تلك المنظومات القانونية
المتشعبة التي تمتد إلى جميع تفاصيل الحياة . فلماذا تجهد البشرية نفسها بذلك كله
عبر التاريخ ، ولماذا لا تستغني بما في القلوب من التقوى والصلاح !!
والشريعة الإسلامية لها الحق الأول عند من التزمها ، وآمن بها – كسائر التشريعات
المعاصرة اليوم في نظر المجادل الذي يؤمن بقانونه وشرعه – في إضفاء صفة الإلزام على
بعض الأمور الحياتية لما تراه من مصلحة عامة للمجتمع ، وتترك أمورا أخرى خاضعة إلى
سلطة الضمير الإنساني ، والوازع الديني والأخلاقي .
ونحن لا ندعي أن الحجاب هو السبب الوحيد لحماية المرأة ، بل هي المنظومة المتكاملة
من الحجاب والأخلاق والقوانين الشرعية والتربية المحافظة التي تدعو إليها الشريعة
الإسلامية ، كلها هي تتضافر فيما بينها على حماية النساء من اعتداء الجاهلين ، بل
حماية المجتمع كله .
ومن ينكر ذلك أيضا ، ويدعي أن القوانين فقط هي التي تحمي المرأة وليس الحجاب ،
فمثله كمثل من يدَّعي أن القوانين فقط تحمي المجتمع من الجريمة والإرهاب ، وينكر
أثر الوعي والعلم والتحصين الفكري والسلوكي في وقاية المجتمعات من تلك المخاطر .
أرأيت لو أن شخصا يعرض نفسه للموت باعتراض الطرق السريعة بجسمه ، فكيف ستحميه
القوانين ، وكيف ستصونه أنظمة السير أو العقوبات المشددة بعد أن تعرض بنفسه للموت
وكأنه يطلبه ؟!! أليست التوعية والنصيحة هي السبب في إنقاذ هذا النوع من الناس .
ولماذا لم تتمكن القوانين من حماية المرأة في المجتمعات الغربية ، فقد كشفت منظمة
(rainn) على موقعها على الانترنت – وهي أكبر منظمة قومية أمريكية ضد الاعتداء
الجنسي – أنه في كل دقيقتين في أمريكا ثمة اعتداء جنسي على أحد الأشخاص ، فماذا
أغنت عنهم القوانين إذن ؟!!
القوانين ليست عصا سحرية تحل جميع مشاكل المجتمعات ، بل لا بد من توفر أرضية صالحة
في المجتمعات ، ولا بد من التزام قوانين أدبية في قلوب الناس وسلوكهم ، كي تثمر
القوانين القضائية نتائجها في حفظ الأمن وصيانة البلاد والعباد .
ثم دعنا نوافقك على ذلك يا عبد الله ؛ فهلم نطلب قانونا ملزما لكل امرأة ألا تخرج
من بيتها إلا بالحجاب الذي أمرها بها رب العزة ، وأن تعاقب المرأة ووليها إذا خالفت
ذلك !!
إن هذه الجدليات إنما تصدر عن شاك ومتردد بالله وبكتابه ، وإلا فلأي شيء نزل القرآن
الكريم ، أليس ليحسم لنا هذه القضايا الحياتية فيهدينا إلى أقوم سبيل ، أليس قد قال
الله تعالى : ( قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ . يَهْدِي
بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )
المائدة/15-16، فإياك أن تنسى هذا الأصل العظيم تحت وطأة كثرة الملبسين .
والله أعلم .