الحمد لله.
2- وعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ : ( مَلأَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا كَمَا شَغَلُونَا عَنْ صَلاَةِ الْوُسْطَى حَتَّى
غَابَتِ الشَّمْسُ) .
رواه البخاري (4111) .
قال ابن الملقن رحمه الله تعالى : " فيه دليل على جواز الدعاء على الكفار بمثل هذا
الدعاء ، وعلى الإخبار بسبب الدعاء لإقامة العذر " .
انتهى من " الإعلام بفوائد عمدة الأحكام " (2/280).
3- وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَمَا
حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ ، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ
، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مُدِّنَا وَصَاعِنَا) رواه البخاري (6372 ) .
قال النووي رحمه الله تعالى : " قال الخطابي وغيره : كان ساكنو الجحفة في تلك الوقت
: يهودا ، ففيه دليل للدعاء على الكفار بالأمراض والأسقام والهلاك " .
انتهى من " شرح صحيح مسلم " (9/150) .
وقال القرطبي رحمه الله تعالى : " أما لعن الكفار جملة من غير تعيين ، فلا خلاف في
ذلك ، لما رواه مالك عن داود بن الحصين أنه سمع الأعرج يقول: ما أدركت الناس إلا
وهم يلعنون الكفرة في رمضان .
قال علماؤنا : وسواء كانت لهم ذِمَّة أم لم تكن ، وليس ذلك بواجب ، ولكنه مباح لمن
فعله ، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله " انتهى من " الجامع لأحكام القرآن "
(2/486) .
وقال ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " ( 8/335 ) : " والدعاء على جنس
الظالمين الكفار : مشروع مأمور به ، وشُرع القنوت ، والدعاء للمؤمنين ، والدعاء على
الكافرين " انتهى
ثانياً :
لا يشرع الدعاء على الكافر المعيّن باللعنة ؛ لأن الملعون مطرود ومُبعَد عن رحمة
الله تعالى ، وهذا الكافر المعين الحي لا نعرف بما سيختم به حياته ، فقد يكون ممن
يوفقه الله للإسلام ويدخله في رحمته ، والله تعالى ربط اللعنة بالموت على الكفر قال
الله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ
عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) البقرة /
161.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى :
" لا خلاف في جواز لعن الكفار ، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من
الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره .
فأمّا الكافر المعين : فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يُلعن ؛ لأنا لا ندري
بما يختم الله له ، واستدل بعضهم بالآية : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا
وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ) .
وقالت طائفة أخرى : بل يجوز لعن الكافر المعين .
واختار ذلك الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ، ولكنه احتج بحديث فيه ضعف ، واستدل
غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده ، فقال رجل : لعنه
الله ، ما أكثر ما يؤتى به ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنه ؛
فإنه يحب الله ورسوله( ، فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يُلعن ، والله أعلم " .
انتهى من " تفسير القرآن العظيم " (2/138) .
وقال ابن الملقن في كتابه " الإعلام بفوائد عمدة الأحكام " (4/508 – 509 ) :
" ( لعن الله اليهود والنّصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ... فيه : لعن اليهود
والنصارى غير المعينين ، وهو إجماع ، سواء أكان لهم ذمة أم لم يكن ، لجحودهم الحق
وعداوتهم الدين وأهله .
واختلف في لعن المعين منهم ، والجمهور على المنع لأن حاله عند الوفاة لا تعلم ، وقد
شرط الله في ذلك الوفاة على الكفر بقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا
وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ، وأما ما روي أنه – عليه الصلاة والسلام – لعن قوما
بأعيانهم من الكفار إنما ذلك لعلمه بمآلهم " انتهى .
وينظر أيضاً : " مجموع الفتاوى " ( 8/ 336 ) ، " الآداب الشرعية " ، لابن مفلح
(1/269) .
ثالثاً :
أما الدعاء على كل الكافرين الذين هم فوق الأرض بالهلاك : فهو من الاعتداء في
الدعاء .
قال الله تعالى ، مؤدباً عباده في دعائهم ربهم : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا
وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) الأعراف/55 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : " فالاعتداء في الدعاء : تارة بأن
يسأل ما لا يجوز له سؤاله ، من المعونة على المحرّمات .
وتارة يسأل ما لا يفعله اللّه ، مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة ، أو يسأله أن
يرفع عنه لوازم البشريّة : من الحاجة إلى الطّعام والشّراب ، ويسأله بأن يطلعه على
غيبه ، أو أن يجعله من المعصومين ، أو يهب له ولدا من غير زوجة ، ونحو ذلك ممّا
سؤاله اعتداء لا يحبّه اللّه ، ولا يحب سائله " انتهى من " مجموع الفتاوى " (15/22
) .
وإذا كان المسلم يُحب أن لا يرى فوق الأرض من يكفر بالله تعالى ، فمن المعلوم- مع
ذلك - أنّ الله قدّر بقاء الكفار لحكمة منه سبحانه وتعالى ، وعليهم تقوم الساعة كما
ثبت في أحاديث صحيحة .
ولأجل ذلك ، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الدعاء بهلاك كل من فوق الأرض من
الكافرين : هو دعاء بما قدر الله تعالى عدم وقوعه ، والدعاء بما قدر الله عدم حصوله
يعتبر اعتداء في الدعاء ، والمسلم منهي عن الاعتداء في الدعاء .
وبهذا أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء :
" وقول الكاتب: ( اللهم عليك بالكفار والمشركين واليهود ، اللهم لا تبق أحدا منهم
في الوجود ، اللهم أفنهم فناءك عادا وثمود) والدعاء بفناء كل الكفار اعتداء في
الدعاء ؛ لأن الله قدر وجودهم وبقاءهم لحكمة ، والله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد "
.
انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء " (24/276) .
وأبرز ما استدل به المجيزون للدعاء على كل الكفار بالهلاك ، دعاء نوح عليه السلام
على قومه ، قال الله تعالى : ( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ
مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) نوح/ 26 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ودعاء نوح على أهل الأرض بالهلاك ، كان بعد أن أعلمه الله أنه لا يؤمن من قومك
إلا من قد آمن ، ومع هذا فقد ثبت فى حديث الشفاعة في الصحيح أنه يقول : ( إني دعوت
على أهل الأرض دعوة لم أُومر بها ) ، فإنه وإن لم ينه عنها ، فلم يؤمر بها ، فكان
الأولى أن لا يدعو إلا بدعاء مأمور به ، واجب أو مستحب ، فإن الدعاء من العبادات
فلا يعبد الله إلا بمأمور به ، واجب أو مستحب ، وهذا لو كان مأمورا به لكان شرعا
لنوح ، ثم ننظر في شرعنا : هل نسخه أم لا ؟ " انتهى من " مجموع الفتاوى " (8/336) .
ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء على الكفار كافة ، بل كان يخص
المعتدين منهم ، ومن اشتد أذاه على المؤمنين ، كما في الأحاديث التي مرّ ذكرها ،
أمّا من كان يرجو إسلامه : فكان من هديه صلى الله عليه وسلم الدعاء له .
كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : " قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو
الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالُوا : يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ ، فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا ؟
فَقِيلَ : هَلَكَتْ دَوْسٌ !!
، قَالَ : ( اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ ) رواه البخاري ( 2937 ) .
وقد أدخل البخاري في صحيحه هذا الحديث في باب " باب الدعاء للمشركين ليتألفهم " .
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني : " وقوله ( ليتألفهم ) من تفقه المصنف ، إشارة منه
إلى الفرق بين المقامين ؛ وأنه صلى الله عليه وسلم كان تارة يدعو عليهم ، وتارة
يدعو لهم ، فالحالة الأولى حيث تشتد شوكتهم ويكثر أذاهم ... والحالة الثانية حيث
تؤمن غائلتهم ويرجى تألفهم كما في قصة دوس " انتهى من " فتح الباري " (6/108).
قال ابن الملقن رحمه الله تعالى : " كان نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام يحب دخول
الناس في الإسلام فكان لا يعجل بالدعاء عليهم ما دام يطمع في إجابتهم إلى الإسلام ،
بل كان يدعو لمن يرجو منه الإنابة ، ومن لا يرجوه ويخشى ضره وشوكته ، يدعو عليه كما
دعا عليهم بسنين كسني يوسف ، ودعا على صناديد قريش لكثرة أذاهم وعداوتهم ، فأجيبت
دعوته فيهم ، فقتلوا ببدر ، كما أسلم كثير ممن دعا له بالهدى " .
انتهى من " التوضيح لشرح الجامع الصحيح " (18/30) .
والله أعلم .