الحمد لله.
ثانيا :
سُمِّي العَقْلُ عَقْلًا لأَنه يَعْقِل صاحبَه عَنِ التَّوَرُّط فِي المَهالِك أَي
يَحْبِسه ، وَقِيلَ: العَقْلُ هُوَ التَّمْيِيزُ الَّذِي بِهِ يَتَمَيَّزُ الإِنسان
مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانِ .
والرَجُل العاقِل هُوَ الْجَامِعُ لأَمره ورَأْيه ، مأْخوذ مِنْ عَقَلْتُ البَعيرَ
إِذا جَمَعْتَ قَوَائِمَهُ ، وَقِيلَ: العاقِلُ الَّذِي يَحْبِس نَفْسَهُ
ويَرُدُّها عَنْ هَواها، أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِمْ قَدِ اعْتُقِل لِسانُه إِذا حُبِسَ
ومُنِع الكلامَ .
انظر : "لسان العرب" (11/ 458).
وهذه المعاني إنما تناسب المخلوق الذي يحتاج في تصرفاته إلى ما يميز به الأشياء ،
وإلى ما يمنعه من الوقوع في المهالك والورطات ، وهذا لا يجوز في حق الله تعالى ،
فلا يوصف الله تعالى بالعقل ، إنما يوصف بالعلم والحكمة والخبرة ؛ كما وصف نفسه ،
ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، لا نتجاوز القرآن والحديث ؛ قال تعالى :
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) البقرة/
231 ، وقال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) النساء/ 11 ، وقال
تعالى : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ )
الأنعام/ 73 ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا ، مشهورة معروفة .
قال شهاب الدين الرملي رحمه
الله :
" لَا يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ عِلْمٌ مَانِعٌ عَنْ
الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي مَأْخُوذٌ مِنْ الْعِقَالِ ، وَهَذَا
الْمَعْنَى إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِيمَنْ يَدْعُوهُ الدَّاعِي فِيمَا لَا يَنْبَغِي
" انتهى من "فتاوى الرملي" (4/ 219-220) .
وقال الحافظ السيوطي رحمه
الله :
" الباري تعالى يوصف بصفة العلم ، ولا يوصف بصفة العقل ، وما ساغ وصفه تعالى به :
أفضل مما لم يسغ ، وإن كان العلم الذي يوصف به تعالى قديما ، ووصفنا حادث ، فإن
الباري لا يوصف بصفة العقل أصلا ، ولا على جهة القدم " انتهى من "الحاوي" (2/ 166)
.
وسئل علماء اللجنة :
هل من وصف الله تعالى بالعقل المدبر للتقريب إلى أفهام العامة يكفر أو لا ؟
فأجابوا : " إذا كان الواقع كما ذكر من وصفه الله بالعقل المدبر للتقريب إلى العامة
فقد أساء بإطلاق ذلك على الله تعالى ؛ لأن أسماء الله وصفاته توقيفية ، ولم يطلق
الله ذلك على نفسه اسما أو وصفا، ولم يطلقه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
لكنه لا يكفر لعدم سوء قصده ، ويكفيه في الإيضاح للعامة وغيرهم وصفه تعالى بكمال
العلم وإحاطته ، والحكمة البالغة في تقديره وتدبيره في تشريعه وخلقه ، وتصريفه
لجميع شؤون عباده ، فذلك يغنيه عن تسميته أو وصفه بما لم يسم ولم يصف به نفسه ، مع
ما في إطلاق العقل المدبر عليه سبحانه من مشابهة الفلاسفة في قولهم بالعقول العشرة
" انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (3/ 198) .
ثالثا :
أما قوله تعالى : ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ
كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ) الزمر/ 43 .
فمعنى الآية : أن الله تعالى يذم الْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ شُفَعَاءَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ ، وَهُمُ الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ
تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ ، بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ حَدَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ ،
وَهِيَ لَا تملك شيئا من الأمر، بل وَلَيْسَ لَهَا عَقْلٌ تَعْقِلُ بِهِ ، وَلَا
سَمْعٌ تَسْمَعُ بِهِ ، وَلَا بَصَرٌ تُبْصِرُ بِهِ ، بَلْ هي جمادات أسوأ مِنَ
الْحَيَوَانِ بِكَثِيرٍ .." .
انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/ 91-92) .
قوله تعالى : ( أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ )
توبيخ لهم على ما يفعلونه من اتخاذ ما لا يملك شيئا ، ولا يعقل شيئا : شفعاء عند
الله ، وكيف يكون من هذا حاله شفيعا مجابا ، فضلا عن أن يكون إلها معبودا ؟!
كيف تدعون من دون الله جمادات لا تعقل ، وتتخذونها شفعاء عند الله ؟
فلا مدخل لهذا كله بصفات الباري سبحانه ، الذي تنزه عن كل نقص وعيب .
والله تعالى أعلم .