الحمد لله.
ثانيا :
لا يلزم البيع بعد انعقاده إلا بانقطاع وقت الخيار ، وقد روى البخاري (2079) ،
ومسلم (1532) عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا
لَمْ يَتَفَرَّقَا ، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا ،
وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) .
وقد اختلف أهل العلم المعاصرون في خيار المجلس لعقد البيع الذي تم عن طريق الهاتف :
فقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"إذا تبايع رجلان بالهاتف فإنه في هذه الحال لا خيار، بمجرد ما يقول أحد : بعت
والثاني يقول: اشتريت وجب البيع " . انتهى من "الشرح الممتع" (8 / 262) .
وقال آخرون بثبوت الخيار فيه
إلى إنهاء المكالمة فإذا انتهى الاتصال فقد انتهت مدة خيار المجلس ، وهو اختيار
الشيخ عبد الله بن جبرين رحمه الله في شرحه على أخصر المختصرات ، واختيار الدكتور
علي القره داغي.
وعلى كلا القولين : فقد انقطع وقت خيار المجلس في حقك قبل رسالتك إليه .
ثالثا:
من شروط انعقاد البيع التراضي من المتعاقدين ؛ قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) النساء/29 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " الأصل في العقود هو التراضي المذكور في قوله : إلا أن
تكون تجارة عن تراض منكم النساء/29 " انتهى من "الفتاوى الكبرى" (4/5).
والطريقة التي يستدل بها على
التراضي من الطرفين هو الإيجاب والقبول الخالي من الإكراه ، ولهذا فإن من عقد البيع
بالإيجاب والقبول فقد انعقد بيعه ، وترتبت عليه آثاره في انتقال ملكية الثمن للبائع
وانتقال ملكية المبيع للمشتري.
والأحكام عند النزاع والرفع إلى القضاء إنما تجرى على الظاهر : والظاهر هنا :
انعقاد البيع ، ولكن نظرا لكونك قلت "بعتك" محرجا منه –كما ذكرت - أي أن حقيقة
الرضى لم يكن موجودا منك ، فإن هذه المسألة اختلف فيها العلماء - رحمهم الله - من
حيث الحكم باطنا وديانة لا قضاء، هل ينعقد البيع هنا أم لا ؟ على قولين:
القول الأول :
عدم اعتبار الحياء والإحراج عذرا مانعا من انعقاد البيع .
جاء في كتاب "الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام" المسمى "شرح ميارة" (2/ 12) من
كتب المالكية :
"فصل في بيع المضغوط [أي المكره]
وَمَنْ يَبِعْ فِي غَيْرِ حَقٍّ شَرْعِي ... بِالْقَهْرِ مَالًا تَحْتَ ضَغْطٍ
مَرْعِي
فَالْبَيْعُ إنْ وَقَعَ مَرْدُودٌ وَمَنْ ... بَاعَ يَجُوزُ الْمُشْتَرَى دُونَ
ثَمَنْ "
قال في الشرح: "ومفهوم وصف الضغط ، بكونه مرعيا : أن الضغط غير المرعي شرعا : لا
عبرة به ، وهو كالعدم ، وذلك كالحياء ." .
والقول الثاني :
أن من عقد البيع حياء : أنه لا ينعقد بيعه في الباطن ، لعدم وجود شرط الرضا منه.
جاء في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (7/ 34) من كتب الشافعية :
" قال في المطلب : ولا يجيء هذا الخلاف في نحو بيع بلا رضا ولا إكراه ، بل يقطع
بعدم حله باطنا ؛ لقوله تعالى : ( عن تراض منكم )[النساء: 29] . وحمله الأذرعي على
نحو بيع لنحو حياء " .
وهذا القول أقرب ؛ لعدم تحقق
شرط الرضا عند من عقده حياء وخجلا.
قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - :
"ومثل ذلك : ما لو علمت أن هذا البائع باع عليك حياءً وخجلاً، فإنه لا يجوز لك أن
تشتري منه ما دمت تعلم أنه لولا الحياء والخجل لم يبع عليك " .
والحاصل :
أنه إن كنت قلت " بعتك" راضيا ثم ندمت على ذلك : فالبيع تام منعقد فتصرفك في المبيع
بعد ذلك تصرف غير صحيح ، ولابد أن تتحلل من صاحبك ، فإذا طابت نفسه كان ذلك بمثابة
الإجازة منه لبيعك الثاني ، وإن لم تطب نفسه فبيعك الثاني غير صحيح ؛ لأنك بعت ما
لا تملك ، فالحق للأول في استرجاع السيارة أو التعويض عن القيمة بعد الرجوع إلى جهة
تفصل بينكم في مقدارها.
وإن كنت قلتها تحت ضغط
الإلحاح منه ، والحياء منك ، ولم يحصل منك الرضا : فلا يلزمك البيع الحاصل بالهاتف
، على ما سبق ذكره ، ولا حرج عليك في بيعك للسيارة على غيره ، والله عليم بالنيات
مطلع على ما في الضمير.
وعلى كل حال : فتطييب قلبك صاحبك ، واستسماحه : أولى بكل حال .
والله أعلم .