أنا في محنة ، فأنا مسلم أقوم بالعبادات ، والمشكلة أنه منذ فترة تراودني أفكار ملحدة عن وجود الإله والعياذ بالله ، وهذا كان قبل الحج ، وحتى بعد الحج ، وترجع تلك الأفكار في كل مرة ، وأحاول ترويض عقلي بالبحث في العلوم ، مثل نظرية الانفجار العظيم ، ما يزيد من إرباكي .
فما هو الحل ؟ ، وماذا يقول الإسلام عن نظرية الانفجار العظيم ؟
الحمد لله.
من نافلة القول التي ينبغي عليك استحضارها دائما : أن العقل البشري أضعف من أن يحيط
بالعلوم ، ويدرك كنه الكون ، ويشرف على حقائق الحياة ، فهو عقل قاصر يعيش " مهزلة "
ـ بحق ، حين يوكل إلى نفسه ، أو يستغني عن العاصم له عن الضلال !!
وبحسبه من كل ذلك : أن يبذل جهده في البحث والتفكر والتأمل ، ويتمسك بالدلائل التي
يكتفي بها العقل البشري السليم ، الذي لم تلوثه الشكوك والظنون والشبهات ، ولم تضعف
جوانب اليقين فيه كثرةُ الأوهام .
فذلك هو العقل السليم الذي خاطبه الله عز وجل في كتابه الكريم ، وجعله مناط التكليف
، وما سوى ذلك من العقول الشكاكة ، فهي بحاجة إلى إعادة تأهيل لتعود إليها الثقة في
الحقائق والمبادئ الفكرية ، وتتفاعل مرة أخرى مع حقائق الإيمان ، فالوسواس الإلحادي
أقرب إلى المرض ، والحالة الاضطرابية منه إلى التفكير العلمي المبني على الحجة
والبرهان .
يقول الله عز وجل : ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ . الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ . الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ
طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ
هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ . ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ
إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ) الملك/1-3.
والتجربة تدل على أن أوائل الشباب هو العمر المعرض للاضطراب الفكري ، والتشويش
العقائدي ، ويبدو أن الأمر يمكن إرجاعه إلى أسباب فسيولوجية بدنية ، لو تيسرت
الدراسات العلمية في هذا الإطار ، وإلى حين ذلك يمكن عزو هذه الظاهرة إلى الطبيعة
البشرية التي تقوم كثيرا على حب التعرف والتشوف إلى كل غريب أو جديد ، والإلحاد
فكرة جديدة على الإنسانية ، أو هي نزعة وطور فردي في صاحبه ، لها بريق جذاب من جهة
التميز والانفراد بحال عن جميع الناس ، وكأن معتنقها يقول إنني المتفرد بكسر الطوق
الذي اعتدتم عليه ، ونشأتم على اعتقاده والإقرار به ؛ أيا كان هذا الأصل ، وأيا كان
صواب الفكرة التي خرج إليه ، والحال التي تميز بها ، كما يذكر أن رجلا بال في زمزم
!! فسُئل عن ذلك : فقال : أردت أن أُذكر ، ولو بالشر !!
ويبدو أن المسكين لم يعلم ، أو لم ينتبه إلى أن الدواب كانت أكثر تعقلا منه ، حين
نجدها وكأنها تعلم بمبدأ السببية ، وتعلم أن الفعل لا بد له من فاعل . يقول الله عز
وجل : ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ
بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) الحج/46.
وقد نستعين بتجارب الحياة اليومية ، كي ندلل لمن تعرض له هذه الوساوس بأنها مجرد
وسوسة لا حقيقة لها فهو يخالفها في حياته اليومية ، فالممارسات اليومية للإنسان
الطبيعي السوي كلها تنطلق من المبادئ العقلية السليمة ، وغالبا تبقى على فطرتها
وسلامتها ، ولا تتعرض للتشويش والاضطراب إلا في حالة ( الجنون ) لا قدر الله .
فتأمل هذه الأمثلة السهلة التي ولا شك تؤمن وتقر بها :
أرأيت لو كنت جالسا في منزلك فسمعت صوت جرس الباب ، فهل تتردد في التفاعل مع هذا
الصوت ! ألا تبادر في القيام للنظر فيمن ينتظر على الباب ! ما الذي يدفعك لمثل هذه
المبادرة!! أليست هي المسلمات العقلية البدهية التي نعيش ونحيا بها ، التي تخبرنا
أن الفعل لا بد له من فاعل ، وأن الأثر لا بد له من مؤثر !!
ثم تصور معنا لو أنك أفسدت هذه المسلمات بالشبهات العقلية والوساوس الفلسفية ، فرحت
تتأمل في الاحتمالات العقلية الممكنة لتفسير ذلك الصوت ، والنظريات التي يمكن أن
تعرض في هذا المقام ، من مثل دعاوى " الصدفة "، أو وقوع الخلل في " شبكة الكهرباء
"، أو " العطل الذي يصيب أنواع الجرس والمنبهات "، أو حتى احتمالات من أمثال أن
أحدهم يتلاعب بدق الجرس والفرار فورا .
ونحو تلك الاحتمالات التي لا ننكر قيامها ، ولكننا نعلم ـ أيضا ـ أنها خلاف الأصل
والمعهود ، ولا تَرِدُ على العقل البشري إلا إذا تكلف التفكير فيها ، وخطؤه أنه
يجعلها معارضة للمبادئ الثابتة ، والقواعد المطردة ، التي لولاها لتساوى العاقل
والمجنون في هذا الكون ، ولذلك يعيش الملحد جنونا في تفكيره بالخالق ، ولكنه في
حياته اليومية يعيش سليما بعيدا عن الجنون ، فيبادر لفتح الباب بعد سماع صوت الجرس
، للتعرف على طالب الدخول ، ولا يتردد لحظة في ذلك ، وهكذا يفعل إذا رن هاتفه ، أو
طرأ عليه أي حادث جديد ؛ فإنه سوف يبحث ـ حتما ـ عن مُحدثه ، وفاعله !!
وتخيل معنا كم هو مثال يسير لا يستغرق لحظات من حياة الإنسان ، ولكن له فيه العظة
والعبرة.
فكيف لو رحنا نضرب الأمثلة في جميع شؤون الدنيا ، أو لو رحنا نعدد القواعد المطردة
في هذا الكون ، والتعقيد المدهش في تفاصيله ، والإعجاز المبهر الذي يتكشف للبشرية
يوما بعد يوم ، ثم بعدها ننسى جميع ذلك ، وننسى كل ما جاء به الأنبياء وما أخبروا
به ، ونخالف مسلمات العقول ومبادئها ، كل ذلك لأجل احتمالات ونظريات عقلية ( طارئة
) عارضنا بها البدائه الثابتة.
ألا تسلم معنا أن هذه هي المشكلة الكبرى ، فليس لمن تعرض له هذه الوساوس حاجة إلى
التأمل في نظرية الانفجار العظيم وغيرها ، بقدر ما هو بحاجة إلى إعادة تهيئة في
الطريقة السليمة التي يتعاطى بها العقل السليم مع معطيات هذا الكون !!
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله :
" الناس جميعا ، المؤمن منهم والكافر ، والناشئ في صوامع العبادة ، والمتربي في
مخادع الفسوق ، اذا ألمّت بهم ملمّة ضاقوا بها ذرعا ، ولم يجدوا لها دفعا ، لم
يعوذوا منها بشيء من هذه الكائنات ، وإنما يعوذون بقوة وراء هذه الكائنات ، قوة لا
يرونها ، ولكنهم يشعرون بأرواحهم وقلوبهم ، وكل عصب من أعصابهم بوجودها ، وبعظمتها
وجلالها . يقع هذا لكثير من الطلاب أيام الامتحان ، ولكثير من المرضى عند اشتداد
الألم وعجز الطبيب . كلهم يعودون إلى ربهم ، ويقبلون على عبادته .
فهل سألتم أنفسكم ، ما السبب في هذا وأمثاله ؟ لماذا نجد كل من وقع في شدة يرجع إلى
الله ؟ نذكر جميعا أيام الحرب الماضية ، والتي قبلها ، كيف كان الناس يقبلون على
الدين ، ويلجؤون إلى الله . الرؤساء والقواد يؤمّون المعابد ، ويدعون الجنود إلى
الصلاة .
ولقد قرأت في مجلة (المختار) المترجمة عن مجلة (ريدر زاديجست) ، مقالة نشرت أيام
الحرب ، لشاب من جنود المظلات ( يوم كانت المظلات والهبوط بها شيئا جديدا ) يروي
قصته فيقول : إنه نشأ في بيت ليس فيه من يذكر الله ، أو يصلي ، ودرس في مدارس ليس
فيها دروس للدين ، ولا مدرس متدين ، نشأ نشأة ( علمانية ) مادية ، أي مثل نشأة
الحيوانات التي لا تعرف إلا الأكل والشرب والفساد ، ولكنه لما هبط أول مرة ، ورأى
نفسه ساقطا في الفضاء ، قبل أن تنفتح المظلة ، جعل يقول : يا الله يا رب . ويدعو من
قلبه ، وهو يتعجب من أين جاءه هذا الإيمان ؟
وبنت ( ستالين ) نشرت من عهد قريب مذكراتها ، فذكرت فيها كيف عادت إلى الدين ، وقد
نشأت في غمرة الإلحاد ، وتعجب هي نفسها من هذا المعاد . وما في ذلك عجب ، فالإيمان
بوجود إله شيء كامن في كل نفس ، إنه فطرة ( غريزة ) من الفِطَر البشرية الأصلية ،
كغريزة الجنس ، والإنسان ( حيوان ذو دين ).
ولكن هذه الفطرة قد ( تغطيها ) الشهوات والرغبات والمطامع ، والمطالب الحيوية
المادية ، فإذا هزتها المخاوف والأخطار والشدائد ألقت عنها غطاءها فظهرت . ولذلك
سمي غير المؤمن ( كافرا ) ، ومعنى الكافر في لسان العرب ( الساتر )...
في قرارة نفس كل إنسان الإيمان بإله ، هذه حقيقة نعرفها نحن المسلمين ؛ لأن الله
خبرنا أن الإيمان فطرة فطر الناس عليها . وقد عرفها الإفرنج من جديد ، ( دوركايم )
أستاذ الاجتماع الفرنسي المشهور له كتاب في أن الإيمان بوجود إله بديهية .
لا يمكن أن يعيش الإنسان ويموت من غير أن يفكر في وجود إله لهذا الكون ، ولكنْ ربما
قصر عقله فلم يهتد إلى المعبود بحق ، فعبد من دونه أشياء ، عبدها على توهم أنها هي
الله ، أو أنها تقرب إلى الله .
فإذا جد الجد ، وكانت ساعة الخطر ، رجع إلى الله وحده ، ونبذ هذه المعبودات .
مشركو قريش ، كانوا يعبدون ( هبل )، و ( اللات )، و ( العزى )، حجارة وأصنام ،
(هبل) صنم من العقيق، جاء به ( عمرو بن لحيّ ) من عندنا ، من ( الحمّة ) قالوا له :
إنه إله عظيم قادر ، فحمله على جمل وجاء به ، فسقط على الطريق فانكسرت يده ، فعملوا
له يدا من ذهب . إله تنكسر يده ! وكانوا مع ذلك يعبدونه !! يعبدونه في ساعات الأمن
، فإذا ركبوا البحر ، وهاجت الأمواج ، ولاح شبح الغرق ، لم يقولوا : يا ( هبل ). بل
قالوا : يا الله .
وهذا مشاهد إلى اليوم عندما تغرق السفن ، أو تشب النيران ، أو يكون الخطر ، أو يشتد
المرض ، تجد الملحدين يرجعون إلى الدين . لماذا ؟ لأن الإيمان غريزة ، أصدق تعريف
للإنسان أنه ( حيوان متدين ) .
وانظروا إلى هؤلاء الملحدين الماديين ، عندما يأتيهم الموت ، هل تظنون أن (ماركس)
أو (لينين) لما أيقن بالموت، دعا ( وسائل الإنتاج ) التي يؤلهها ، أم دعا الله ؟
ثقوا أنهما لم يموتا حتى دعوا الله ، ولكن حين لا ينفع الدعاء . و( فرعون ) تكبر
وتجبر ، وقال : أنا ربكم الأعلى . فلما أدركه الغرق ، قال : ( آمنت بالذي آمنت به
بنو إسرائيل .. ) " انتهى من " تعريف عام بدين الإسلام " (ص/45-48) .
وللفائدة : ينظر جواب السؤال رقم (12315)
، ورقم (39684) .
والله أعلم .