الحمد لله.
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم سادات الأولياء والصالحين من هذه الأمة ، خدام أنفسهم ، وربما عمل الواحد منه في مهنته ، فتعرق ، فتغير ريحه ؛ كما روى البخاري (2071) ، ومسلم (847) قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَّالَ أَنْفُسِهِمْ ، وَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ أَرْوَاحٌ ، فَقِيلَ لَهُمْ : ( لَوِ اغْتَسَلْتُمْ ) !! " .
لكن إن كان المخبر بذلك عن
بعض من رآه ، واستوثق بحاله ، من أهل الصدق والصلاح والأمانة في النقل والديانة ،
فلا ينكر حصول مثل ذلك كرامة لبعض الصالحين ، متى كان النقل بذلك ثابتا ، كما قلنا
.
وحصول الكرامة من الله تعالى لعباده الصالحين أمر ثابت شرعا وقدرا ، وهو من كريم
منته وعاجل مثوبته لعباده المؤمنين .
غير أنه ليس كل ما خرق العادة وجاء على خلافها يعدّ من الكرامات ، بل لا بد من النظر في العبد وما هو عليه من حال : فإن كان من المؤمنين الصالحين المستقيمين على سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، غير المبدلين ولا المحرفين ، وكان ما يقع له لا يخالف الشرع : فيرجى أن يكون ذلك كرامة من الله تعالى له ، ورزقا من الله لمن شاء من عباده الصالحين .
أما إن كان من الجاهلين
المبدلين المنحرفين عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم : فليس من الكرامة في شيء ؛ بل
إما أن يكون الناقل كاذبا ، كما هو حال كثير من الدجاجلة ، وأتباع المحرفين
المفتونين ، أو يكون ما يرى منه إنما هو من قبيل المخاريق وحيل الكاذبين .
وأشد ما يكون من ذلك أن يمكر الله بصاحبه ، فيسوق على يديه من الخوارق ، ما يكون
فتنة ، وفتنة لكل مفتون ، يختبر بها إيمانه وصدقه ، ويظهر بها مكنون صدره ، وسوء
طويته .
ومن ذلك ما حصل للحارث بن سعيد الدمشقي الكذاب الذي كان يعبد الله ، ثم فتن في دينه
وادعى النبوة حتى دعا الناس إلى تصديقه فتبعه خلق كثير ، قال ابن كثير رحمه الله :
" قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ : ثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ
نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُبَارَكٍ ، ثَنَا الْوَلِيدُ
بْنُ مُسْلِمٍ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَسَّانَ ، قَالَ: كَانَ الْحَارِثُ
الْكَذَّابُ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ ، فَعَرَضَ لَهُ إِبْلِيسُ وَكَانَ رَجُلًا
مُتَعَبِّدًا زَاهِدًا ، لَوْ لَبِسَ جُبَّةً مِنْ ذَهَبٍ لَرُئِيَتْ عَلَيْهِ
الزَّهَادَةُ وَالْعِبَادَةُ ، وَكَانَ إِذَا أَخَذَ فِي التَّحْمِيدِ لَمْ
يَسْمَعِ السَّامِعُونَ مِثْلَ تَحْمِيدِهِ ، وَلَا أَحْسَنَ مِنْ كَلَامِهِ ،
فَكَتَبَ إِلَى أَبِيهِ : يَا أَبَتَاهُ ، أَعْجِلْ عَلَيَّ، فَإِنِّي قَدْ
رَأَيْتُ أَشْيَاءَ أَتَخَوَّفُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْطَانُ قَدْ عَرَضَ لِي ، قَالَ
: فَزَادَهُ أَبُوهُ غَيًّا عَلَى غَيِّهِ ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُوهُ : يَا
بُنَيَّ ، أَقْبِلْ عَلَى مَا أُمِرْتَ بِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ :
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ
أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) وَلَسْتَ بِأَفَّاكٍ وَلَا أَثِيمٍ ، فَامْضِ لِمَا أُمِرْتَ
بِهِ ، فَكَانَ يَجِيءُ إِلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ رَجُلًا رَجُلًا فُيُذَاكِرُهُمْ
أَمْرَهُ ، وَيَأْخُذُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ ، إِنْ هُوَ يَرَى مَا
يَرْضَى : قَبِلَ ، وَإِلَّا كَتَمَ عَلَيْهِ .
قَالَ : وَكَانَ يُرِيهِمُ الْأَعَاجِيبَ ; كَانَ يَأْتِي إِلَى رُخَامَةٍ فِي
الْمَسْجِدِ ، فَيَنْقُرُهَا بِيَدِهِ فَتُسَبِّحُ تَسْبِيحًا بَلِيغًا ، حَتَّى
يَضِجَّ مِنْ ذَلِكَ الْحَاضِرُونَ.
قُلْتُ [ القائل هو الحافظ ابن كثير] : وَقَدْ سَمِعْتُ شَيْخَنَا الْعَلَّامَةَ
أَبَا الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَةَ ، رَحِمَهُ اللَّهُ ، يَقُولُ: كَانَ يَنْقُرُ
هَذِهِ الرُّخَامَةَ الْحَمْرَاءَ الَّتِي فِي الْمَقْصُورَةِ : فَتُسَبِّحُ ،
وَكَانَ زِنْدِيقًا.
قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي رِوَايَةٍ : وَكَانَ الْحَارِثُ يُطْعِمُهُمْ
فَاكِهَةَ الشِّتَاءِ فِي الصَّيْفِ ، وَفَاكِهَةَ الصَّيْفِ فِي الشِّتَاءِ ،
وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ : اخْرُجُوا حَتَّى أُرِيَكُمُ الْمَلَائِكَةَ ، فَيَخْرُجُ
بِهِمْ إِلَى دَيْرِ الْمُرَّانِ ، فَيُرِيهِمْ رِجَالًا عَلَى خَيْلٍ ، فَتَبِعَهُ
عَلَى ذَلِكَ بِشْرٌ كَثِيرٌ " .
انتهى من "البداية والنهاية" (12/ 286-287) .
ولذلك قال الإمام الشافعي
رحمه الله : " إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى
تعرضوا أمره على الكتاب والسنة " .
انتهى من"البداية والنهاية" (13 /251) .
فحقيقة الكرامة وغايتها : لزوم الاستقامة .
وينظر جواب السؤال رقم : (175604) .
وقد يبتلى العبد الصالح بشيء
من ذلك فيرى فيه خلاف الشرع ، فيعلم أنه من الشيطان ؛ كما حصل للشيخ عبد القادر
الجيلاني رحمه الله ، فحكى عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه قال : " كُنْت
مَرَّةً فِي الْعِبَادَةِ ، فَرَأَيْت عَرْشًا عَظِيمًا وَعَلَيْهِ نُورٌ ، فَقَالَ
لِي : يَا عَبْدَ الْقَادِرِ ؛ أَنَا رَبُّك ، وَقَدْ حَلَلْت لَك مَا حَرَّمْت
عَلَى غَيْرِك !!
قَالَ : فَقَلَتْ لَهُ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ؟! اخْسَأْ يَا
عَدُوَّ اللَّهِ !!
قَالَ : فَتَمَزَّقَ ذَلِكَ النُّورُ ، وَصَارَ ظُلْمَةً ؛ وَقَالَ : يَا عَبْدَ
الْقَادِرِ ، نَجَوْت مِنِّي بِفِقْهِك فِي دِينِك ، وَعِلْمِك ؛ لَقَدْ فَتَنْت
بِهَذِهِ الْقِصَّةِ سَبْعِينَ رَجُلًا !!
فَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ عَلِمْت أَنَّهُ الشَّيْطَانُ ؟
قَالَ بِقَوْلِهِ لِي : " حَلَلْت لَك مَا حَرَّمْت عَلَى غَيْرِك " ، وَقَدْ
عَلِمْت أَنَّ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُنْسَخُ
وَلَا تُبَدَّلُ ، وَلِأَنَّهُ قَالَ : أَنَا رَبُّك وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَقُولَ
: أَنَا اللَّهُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا أَنَا !! " انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/
172) .
والله تعالى أعلم .