هل الله موجود بلا مكان ؟ أرجو الشرح فأنا محتار حقاً ، وما العقيدة الصحيحة في هذه المسألة ؟ فعلى حد علمي أن هذه عقيدة الأشعرية ، ويستدلون بحديث "كان الله ولم يكن شيء، وكان عرشه على الماء .." رواه البخاري ، وقد شرح بعضهم الحديث فقال: في الحديث دلالة واضحة ومباشرة أن الله موجود ولم يكن قبله شيء ، وبالتالي فإن كل ما سوى الله مخلوق ، فالله هو الأول بلا بداية ، وإذا ما اعتقدتم ، كما تعتقد الوهابية، أن أزلية العرش مرتبطة بأزلية الله فإنكم بذلك تتقحمون أسوار"التجديف" – الكفر والزندقة - تقحماً ظاهراً ، لأن العرش ليس إلا مجرد مخلوق من مخلوقات الله. فالسؤال إذاً هو: هل كان العرش موجوداً مع الله تعالى قبل أن يخلق الخلائق ، أم إنه خلق من خلقه ؟ أم إن هناك شرحا مخالفا تماماً لكل هذا ؟
الحمد لله.
أولا :
من عقيدة أهل السنة والجماعة : الإيمان بأن الله تعالى مستو على عرشه ، وعرشه فوق سماواته ، وأنه سبحانه لا يحويه شيء من مخلوقاته .
انظر جواب السؤال رقم : (124469).
ثانيا :
العرش مخلوق ، لم يكن ثم كان ، وهو أعظم المخلوقات .
قال ابن حزم رحمه الله ، فيما حكاه من " مراتب الإجماع" :
" اتفقوا أن الله وحده لا شريك له ، خالق كل شيء غيره ، وأنه تعالى لم يزل وحده ، ولا شيء غيرُه معه ، ثم خلق الأشياء كلَّها كما شاء، وأن النفس مخلوقة، والعرش مخلوق، والعالم كله مخلوق." .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، في تعليقه عليه :
" أما اتفاق السلف وأهل السنة والجماعة على أن الله وحده خالق كل شيءٍ فهذا حق.." . انتهى من " نقد مراتب الإجماع" (303) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، أيضا :
" الْعَرْشَ مَخْلُوقٌ ؛ فَإِنَّ الله يَقُولُ: ( وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) وَهُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ: الْعَرْشُ وَغَيْرُهُ ، وَرَبُّ كُلِّ شَيْءٍ: الْعَرْشُ وَغَيْرُهُ " .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (18/ 214) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" العرش مخلوق عظيم ، لا يعلم قدره إلا الله " .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (7/ 287) .
ومن زعم أن أحدا من أهل السنة ، أو من يسمونهم بالوهابية ، يقول بأن العرش أزلي غير مخلوق ، وأنه قديم قدم الباري سبحانه : فقد افترى الكذب وادعى البهتان ، وهذا سبيل كثير من أهل البدعة ممن يتنقص أهل السنة ويتهمونهم بالباطل كذبا وزورا ، ويقال لهؤلاء : ( قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) ؛ فهاتوا من كلام أهل السنة حرفا واحدا يقول : إن العرش قديم بقدم الله ، لم يزل معه سبحانه !!
ثالثا :
جمهور أهل العلم على أن العرش أول المخلوقات ، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
" أول ما خلق الله من الأشياء المعلومة لنا هو العرش ، واستوى عليه بعد خلق السماوات، كما قال - تعالى -: ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) ".
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (1/ 62)
وانظر جواب السؤال رقم : (145809) .
رابعا :
روى البخاري (7418) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " أن نَاسا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوَّلِ هَذَا الْأَمْرِ مَا كَانَ ؟ فقَالَ : ( كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ ) .
وفي رواية (3191) : ( كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ ) .
فعرش الرحمن سبحانه خلق من خلقه ، خلقه قبل خلق السموات والأرض وما فيهن ،
والحديث المتقدم يدل على أنه لم يكن شيء أولا غير الله تعالى ، لا العرش ولا غيره من المخلوقات ، ثم إنه سبحانه خلق العرش ، ثم خلق المخلوقات .
وانظر جواب السؤال رقم : (146779) ، (184797) .
خامسا :
زاد النفاة من الجهمية وغيرهم ، ممن سلك سبيلهم في نفي صفات الرب تعالى ، زيادة في هذا الحديث منكرة ، لا أصل لها ؛ فقالوا : ( كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ ، وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ ) ، يريدون بذلك نفي ما أثبته الرب تعالى لنفسه من الاستواء والنزول .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" مِنْ أَعْظَمِ الْأُصُولِ الَّتِي يَعْتَمِدُهَا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ الْمَلَاحِدَةُ الْمُدَّعُونَ لِلتَّحْقِيقِ وَالْعِرْفَانِ: مَا يَأْثرُونَهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مَعَهُ ، وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ) ، عِنْدَ الِاتِّحَادِيَّةِ الْمَلَاحِدَةِ .
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ) : كَذِبٌ مُفْتَرًى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مُخْتَلَقٌ ، وَلَيْسَ هُوَ فِي شَيْءٍ مِنْ دَوَاوِينِ الْحَدِيثِ ، لَا كِبَارِهَا وَلَا صِغَارِهَا ، وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِإِسْنَادِ ، لَا صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ ، وَلَا بِإِسْنَادِ مَجْهُولٍ ، وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بَعْضُ مُتَأَخِّرِي مُتَكَلِّمَةِ الْجَهْمِيَّة ، فَتَلَقَّاهَا مِنْهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَلُوا إلَى آخِرِ التَّجَهُّمِ - وَهُوَ التَّعْطِيلُ وَالْإِلْحَادُ -.
وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ الْإِلْحَادِيَّةُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: " وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ " : قَصَدَ بِهَا الْمُتَكَلِّمَةُ الْمُتَجَهِّمَةُ نَفْيَ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ؛ مِنْ اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ وَنُزُولِهِ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَقَالُوا: كَانَ فِي الْأَزَلِ ، لَيْسَ مُسْتَوِيًا عَلَى الْعَرْشِ ، وَهُوَ الْآنَ عَلَى مَا عَلَيْهِ كَانَ؛ فَلَا يَكُونُ عَلَى الْعَرْشِ لِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ التَّحَوُّلِ وَالتَّغَيُّرِ " انتهى ملخصا من "مجموع الفتاوى" (2/ 272-273) .
وقال أيضا ، رحمه الله :
" قاعدة جليلة بمقتضى النقل الصريح في إثبات علوّ الله تعالى ، الواجب له على جميع خلقه ، فوقَ عرشِه، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة والإجماع والعقل الصريح الصحيح والفطرة الإنسانية الصحيحة الباقية على أصلها.
وهي أن يقال: كان الله ولا شيء معه، ثمّ خلق العالم، فلا يخلو: إما أن يكون خَلَقَه في نفسه واتصل به، وهذا محالٌ، لتعالي الله عز وجل عن مماسّةِ الأقذار والنجاسات والشياطين والاتصال بها.
وإمّا أن يكون خَلَقَه خارجًا عنه ثم دخل فيه ، وهذا محالٌ أيضًا، لتعالي الله عز وجل عن الحلول في المخلوقات ، وهاتان الصورتان مما لا نزاعَ فيها بين المسلمين.
وإما أن يكون خَلَقَه خارجًا عن نفسِه ، ولم يحل فيه ، فهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره ، ولا يقبل الله منا ما يخالفه ، بل حرَّم علينا ما يناقضه .
وهذه الحجة هي من بعض حجج الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، التي احتجَّ بها على الجهمية في زمن المحنة.
ولهذا قال عبد الله بن المبارك فيما صحَّ عنه أنه قيل له: بماذا نعرف ربَّنا؟ قال: بأنه فوق سمواته ، على عرشه ، بائن من خلقه .
وعلى ذلك انقضى إجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم ، وجميع الأئمة الذين لهم في الأمة لسان صدقٍ، وما خالفهم في ذلك من يُحتجّ بقوله.
ومن ادَّعى أن العقلَ يعارضُ السمعَ ويخالفه ، فدعواه باطلة، لأن العقل الصريح لا يتصور أن يخالف النقل الصحيح.
وإنما المخالفون للكتاب والسنة والإجماع، والمدّعون حصول القواطع العقلية إنما معهم شُبَه المعقولات لا حقائقها، ومن أراد تجربة ذلك وتحقيقه ، فعليه بالبراهين القاهرة ، والدلائل القاطعة التي هي مقررة مسطورة في غير هذا الموضع " انتهى من "جامع المسائل" (1/63-64) .
سادسا :
تكلم الشيخ ابن عثيمين ، رحمه الله ، عن قول القائل : إن الله منزه عن المكان ؛ لأنه لا يليق بالله عز وجل . فقال :
" وهذا غير صحيح على إطلاقه، فإنه إن أراد بنفي المكان ، المكان المحيط بالله - عز وجل - فهذا النفي صحيح، فإن الله تعالى لا يحيط به شيء من مخلوقاته، وهو أعظم وأجل من أن يحيط به شيء، كيف (والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه)؟ .
وإن أراد بنفي المكان : نفي أن يكون الله تعالى في العلو ؛ فهذا النفي غير صحيح، بل هو باطل بدلالة الكتاب والسنة، وإجماع السلف والعقل والفطرة .
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للجارية: " أين الله؟ ". قالت: في السماء. قال لمالكها: (أعتقها فإنها مؤمنة) .
وكل من دعا الله عز وجل فإنه لا ينصرف قلبه إلا إلى العلو، هذه هي الفطرة التي فطر الله الخلق عليها ، لا ينصرف عنها إلا من اجتالته الشياطين، لا تجد أحدا يدعو الله عز وجل ، وهو سليم الفطرة ، ثم ينصرف قلبه يمينا أو شمالا أو إلى أسفل، أو لا ينصرف إلى جهة، بل لا ينصرف قلبه إلا إلى فوق " .
انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (1/ 196-197) .
وسئل علماء اللجنة عن هذه العبارة : " وتيقن أن الله موجود بلا مكان " ؟
فأجابوا :
" هذه العبارة عبارة باطلة ؛ لأنها تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة من أن الله سبحانه في العلو فوق سماواته ، مستو على عرشه ، بائن من خلقه ، بخلاف ما يقوله نفاة العلو من الجهمية ، ومن سار على نهجهم الباطل " .
انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (2/ 386) .
وانظر جواب السؤال رقم : (162155) .
والله تعالى أعلم .