والداها يحثانها على العمل وهي محتارة في تحديد هدفها
أنا فتاة مسلمة عمري ٢٥ سنة , كنت متبرجة من قبل ، ومنَّ الله علي بالهداية منذ شهر رمضان الماضي ، والتزمت - والحمد لله - بالحجاب الشرعي ، مع كشف الوجه واليدين ، وبالمحافظة على الصلاة وقراءة القرآن .
كنت إلى نهاية السنة الدراسية الماضية أدرس في جامعة مختلطة ، كحال جميع المؤسسات في بلدي ، حتى الدينية منها ، وحصلت على إجازة في العلوم الفيزيائية ، وبحكم حرصي على الالتزام بديني ، وتغير نظرتي للدنيا ، احترت ، وارتأيت أن ألزم المنزل هذه السنة ، لكي أتفقه في أحكام ديني ، وأفكر فيما يمكن أن أفعل في الدراسة أو العمل بما يرضي الله .
أنا على نفسي صراحة أتمنى أن أكمل الماجستير ، ووالداي - ولو لم يصرحا بذلك - يريدانني أن أعمل ، وهذا يجعلني أفهم أنهما تعبا من المصروف علي , والعمل ليس بيدي ، فإلى جانب أنه لا مفر من الاختلاط ، هناك رشوة ومحسوبية ، وأنا لا أريد أن أبدأ عملا بالحرام , فتارة أدعو الله أن يوفقني إلى عمل بالحلال ، وتارة أدعو الله أن يرزقني زوجا صالحا ، وتارة هداية وتثبيتا على هذا الدين ، فأنا محتارة حتى في الدعاء !
ولا أخفيكم نظرات الاستخفاف والدونية من العائلة والجيران ، وهذا شيء لا يؤثر في ، ولكنه يؤثر في والدي ، خصوصا أن عمل الفتاة هنا في بلدي يعتبر استقلالية ، وشيئا يفتخر به .
أنا محتارة في أمري ووجهتي .
وما يصبرني ويفرحني هو راحتي النفسية بعد الالتزام - والحمد لله - .
سؤالي هو : ما السبيل لكي أرضي الله ونفسي ووالدي في نفس الوقت ؟
وما توجيهاتكم لفتاة مسلمة تعيش في وسط لا يعين على التمسك بما جاء به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب
الحمد لله.
كثيرة هي هموم فتياتنا في أمتنا العربية والإسلامية ، وكثيرة هي قضاياهن الجليلة
والمهمة ، التي تستدعي من المجتمعات وقفة جادة تعينهن على تحقيق آمالهن ، وتصونهن
عن كل ما يبتذل طهرهن وحياءهن .
ونحن نحمد الله تعالى أن هداك لطريق الاستقامة ، ومنَّ عليك بما تستشعرين من سعادة
القلب وراحة النفس بالقرب من الله تعالى ، وتلك والله السعادة التي لا يشتريها
المال ، ولا تجلبها كل مظاهر المدنية التي يعيشها الناس اليوم .
ولكننا في الوقت نفسه نستشعر في سؤالك قدرا من المبالغة في حجم المشكلة ، بل حتى في
وجودها أصلا ، فالأمر سهل ميسور بإذن الله ، والحيرة تأتي بسبب ضيق الخيارات ، أما
إذا كانت الخيارات كلها واردة ، ولا تتعارض مع بعضها ، فليس في الأمر أي حيرة ،
فإذا سألت الله عز وجل في دعائك فاسأليه جميع فضله ، اسأليه أن يرزقك الزوج الصالح
، والعمل المباح ، والرزق الحلال الواسع ، ورضا الوالدين ، والثبات على الدين ،
والحسنة في الدنيا والآخرة ، وكل خير في الدنيا والآخرة ، فالله عز وجل كريم لا
تنفد خزائنه ، ولا تنقضي مكارمه ، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، يحب إذا
سأله أحدنا أن يسأله من واسع رزقه وكرمه ، فلماذا نضيق واسعا ، ولا نسأله عز وجل كل
ما نرجو ونتمنى مما فيه سعادتنا وصلاح أحوالنا !! يقول الله عز وجل : ( وَاسْأَلُوا
اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ) النساء/32 ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإذا
سألتم الله فسلوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وأعلى الجنة ) رواه البخاري (7423) .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ ،
وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ : إِمَّا
أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ
، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا ) ، قَالُوا: إِذًا
نُكْثِرُ، قَالَ: ( اللهُ أَكْثَرُ ) . رواه أحمد (11133) وغيره ، وصححه الألباني .
وأبواب العمل واسعة والحمد لله ، لا نرى أن تغلقيها على نفسك جميعها ، وتيأسي من
تحصيل ما يرضيك منها ، بدعوى وجود بعض المحاذير ، فلا تدرين ، لعل الله ييسر لك
عملا خالصا من كل الشوائب ، تجدين فيه راحتك ورزقك ، فقد قال الله سبحانه : ( وَمَن
يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ
وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ
قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً ) الطلاق/2-3 ، ولكن ذلك يقتضي منك
الاجتهاد في البحث والسؤال ، وتحصيل الأسباب التي تجعلك أولى بالقبول ، إضافة إلى
تفقه في الأحكام الشرعية ، كي تميزي بين الحلال والحرام ، فلا تغلقي على نفسك أبواب
الحلال ظنا منك تحريمها أو العكس .
وشريعة الإسلام حثت الأفراد والمجتمعات على النجاح والاجتهاد والإنتاج ، سواء من
خلال الدراسة أو الانضواء تحت الأعمال التطوعية أو العمل لتحصيل الرزق أو النشاط
الإصلاحي المجتمعي على مستوى الأسرة والحي ، كل ذلك مما يحبه الله ويرضاه إذا
احتسبته الفتاة عند الله عز وجل ، وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال :
"طُلِّقَتْ خَالَتِي ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ نَخْلَهَا ، فَزَجَرَهَا رَجُلٌ
أَنْ تَخْرُجَ ، فَأَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقال لها
: ( بَلَى فَجُدِّي نَخْلَكِ ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي ، أَوْ تَفْعَلِي
مَعْرُوفًا ) رواه مسلم (1483) .
فانظري كيف أذن لها في مثل ذلك العمل المشروع ، لعلها أن تجد من واسع رزق الله ما
تتصدق به ، وتصنع به المعروف للناس ، فاليد عليا خير من اليد السفلى كما أخبر عليه
الصلاة والسلام ، وهذا يصدق على النساء أيضا ، لكن في العمل المباح المنتج للخير .
يقول الشيخ ابن باز رحمه الله :
" لا يمنع الإسلام عمل المرأة ولا تجارتها ، فالله جل وعلا شرع للعباد العمل وأمرهم
به ، فقال : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ
وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، وقال : ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا )، وهذا
يعم الجميع الرجال والنساء ، وشرع التجارة للجميع ، فالإنسان مأمور بأن يتجر ،
ويتسبب ، ويعمل سواء كان رجلا أو امرأة ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) هذا يعم الرجال والنساء جميعا " .
انتهى من " مجموع فتاوى ابن باز " (28/104) .
لكن قصارى الأمر : أن تتأني في طلب العمل المباح ، والرزق الحلال ، وتتخيري من بين
المتاح أمامك : أنسب الأعمال لطبيعتك ، وأبعدها عن الاختلاط والمفاسد ، وأقربها إلى
فتاة ملتزمة .
وأما أمر الدراسة : فنحن نقترح عليك أن تؤجليه فترة ، لعلك أن تستقري ماديا ،
واجتماعيا ، ثم تنظري في ظروفك بعد ذلك : هل تسمح لك بإكمال الماجيستير ، أو الأنسب
لك أن تكتفي بالدراسة التخصصية إلى الحد الذي بلغتيه .
نسأل الله تعالى أن يكتب لنا ولك في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وأن يقينا
عذاب النار .
والله أعلم .