الحمد لله.
أولا :
القصة التي تسأل عنها هي ما جاء في الحديث التالي :
عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ قَالَ : " كُنْتُ نَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ عَلَى
خَمِيصَةٍ لِي ثَمَنُ ثَلاَثِينَ دِرْهَمًا ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَاخْتَلَسَهَا مِنِّي
، فَأُخِذَ الرَّجُلُ ، فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَأَمَرَ بِهِ لِيُقْطَعَ . قَالَ : فَأَتَيْتُهُ ، فَقُلْتُ :
أَنَقْطَعُهُ مِنْ أَجْلِ ثَلاَثِينَ دِرْهَمًا ، أَنَا أَبِيعُهُ ، وَأُنْسِئُهُ
ثَمَنَهَا ؟ قَالَ: فَهَلاَّ كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ ) رواه أبو
داود ( 4394 ) ، والحاكم في " المستدرك " ( 4 / 380 ) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ،
وصححه الألباني في " إرواء الغليل " ( 2317 ) .
وما استنتجه هذا القائل ، من الحديث : صحيح مقرر ؛ أن التسامح في الحدود ، والعفو
عنها : إنما يكون قبل أن يرفع ذلك إلى الإمام : الحاكم ، أو القاضي ؛ فإذا رفعت
القضية إليه ، فقد صارها نظرها ، والحكم فيها : حقا للشرع ، لا للشخص ، صاحب
الواقعة .
قال ابن عبد البر رحمه الله :
" لَا أَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافًا فِي الْحُدُودِ إِذَا بَلَغَتْ
إِلَى السُّلْطَانِ ، لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَفْوٌ لَا لَهُ وَلَا لِغَيْرِهِ ،
وَجَائِزٌ لِلنَّاسِ أَنْ يَتَعَافَوُا الْحُدُودَ مَا بَيْنَهُمْ مَا لَمْ
يَبْلُغِ السُّلْطَانَ ، وَذَلِكَ مَحْمُودٌ عِنْدَهُمْ .
وَفِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ السَّرِقَةِ فِي ذَلِكَ مَا
لَيْسَ لِلسُّلْطَانِ ، وَذَلِكَ مَا لَمْ يَبْلُغِ السُّلْطَانَ ، فَإِذَا بَلَغَ
السَّارِقُ إِلَى السُّلْطَانِ لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ
حُكْمِهِ فِي عَفْوٍ وَلَا غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يُتْبِعُهُ بِمَا سَرَقَ
مِنْهُ إِذَا وَهَبَهُ لَهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السَّارِقَ لَوْ أَقَرَّ
بِسَرِقَةٍ عِنْدَ الْإِمَامِ يَجِبُ فِي مِثْلِهَا الْقَطْعُ سَرَقَهَا مِنْ
رَجُلٍ غَائِبٍ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ رَبُّ السَّرِقَةِ ، وَلَوْ
كَانَ لِرَبِّ السَّرِقَةِ فِي ذَلِكَ مَقَالٌ لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى يَحْضُرَ
فَيَعْرِفَ مَا عِنْدَهُ فِيهِ " انتهى من " التمهيد " (11/225-226) .
ثانيا :
ما ذكر في السؤال ، من سرقة شنطة ... ونحو ذلك ، هو ما يعرف في الفقه بـ" الاختلاس"
، وهناك فرق بينه وبين السرقة .
فالسرقة في اللغة ، وفي الفقه ؛ هي أخذ المال من المسروق منه خفية .
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله تعالى :
" أما معناها – أي السرقة - : فتتفق كلمة أرباب اللسان على أن العنصر الأساسي في
معنى مادة ( سرق ) هو ( الاختفاء ) .
ومنه قوله تعالى ( إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) أي تسمع مختفيا .
ومنه قيل للأبحّ : سرق صوته ، فهو مسروق ، لاختفاءٍ حصل فيه .
ومنه هنا ، قيل لمن يأخذ المال من غيره مختفيا : ( سارق ) ؛ فإن أخذه من غير خفية
فهو: مختلس . ومستلب . ومحترس .
فمعنى ( السرقة ) في اللغة إذًا هو ( الأخذ بخفية ) ...
تعريفها في لسان الشرع :
يجد الناظر في بيان أهل العلم لمعنى السرقة في اصطلاح الشرع : التقاء تعريف السرقة
اصطلاحا ، مع المعنى اللغوي ، بجامع الاختفاء . فهو عنصر أساسي في التعريف
الاصطلاحي شرعا " انتهى من " الحدود والتعزيرات عند ابن القيم " ( ص 346 – 347 ) .
وأما : "الاِخْتِلاَسُ"
و"الخَلْسُ" - في اللّغة – فهو : " أخذ الشّيء مخادعةً ، عن غفلة ... ويزيد استعمال
الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ أنّه : أخذ الشّيء بحضرة صاحبه جهرا ، مع الهرب به
، سواء جاء المختلس جهارا أو سرّا ، مثل أن يمدّ يده إلى منديل إنسان فيأخذه " .
انتهى من " الموسوعة الفقهية الكويتية " ( 2 / 288 ) .
فالمختلس : يغافل صاحب
المتاع الذي يريد سرقته ، فيستخفي فقط في ابتداء اختلاسه ، لكنه يُعْلَم به أثناء
أخذه الشيء .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
"والمختلس: الذي يجتذب الشيء ، فيعلم به قبل أخذه " .
انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 28 / 333 ).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى :
" وهو الذي يأخذ المال خطفاً ، وهو يركض ، فهذا أخذه علناً ، لكن معتمداً على هربه
وسرعته ، نقول: هذا ـ أيضاً ـ ليس عليه قطع ؛ لأن هذه ليست سرقة ، فالسرقة اسمها
يدل على أن الإنسان يأخذ المال خفية .
كذلك : لو أنه وقف عند دكان ، وقال لصاحب الدكان : هل عندك كذا وكذا ؟ ثم قال له:
أعطني كذا الذي بالداخل ، فإذا دخل الرجل أخذ مما أمامه ما يريد ، ثم هرب ، فهذا
نسميه مختلساً " انتهى من " الشرح الممتع " ( 14 / 327 ) .
وهنا مسألتان :
المسألة الأولى :
أخذ المال من الناس بغير حق ، بأي شكل من الأشكال ، بالسرقة أو بالاختلاس ، أو
بغيرهما ؛ هو ظلم عظيم ، وفاعله توعده الله تعالى بالعقوبة ، ولا فرق ـ في عقوبة
الآخرة ـ بين أن يكون قد أخذ مال غيره : سرقة ، أو يكون قد أخذه اختلاسا ـ بحسب
التفريق الاصطلاحي السابق .
قال الله تعالى : ( إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ
وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )
الشورى /42.
وقال تعالى : ( وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى
النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا
يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ) المطففين / 1 – 6 .
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (
مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ : فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ
النَّارَ ، وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : وَإِنْ كَانَ
شَيْئًا يَسِيرًا ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ( وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ
) " رواه مسلم ( 137 ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (
أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ ) ، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لاَ
دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ ، فَقَالَ : ( إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي ،
يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ
شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ،
وَضَرَبَ هَذَا . فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ .
فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ ، قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ ، أُخِذَ مِنْ
خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ . ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ) " رواه مسلم (
2581 ) .
فعدم قطع اليد على بعض أنواع الظلم لا يعني أنها معصية هينة ، ولا يعني أنها ليست سرقة وأكلا لأموال الناس بالباطل ، ولا يعني كذلك أنها لا عقوبة عليها في الآخرة ، أو أن عقوبتها في الآخرة أهون من عقوبة السرقة ، بالمعنى الاصطلاحي المذكور ؛ فإن أخذ أموال الناس بالباطل ، أيا ما كانت وسيلته : هو من كبائر الإثم والعدوان ، وفاعله في خطر عظيم .
المسألة الثانية :
أما العقوبة الدنيوية فتختلف .
فالسارق : تقطع يده .
لقول الله تعالى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) المائدة
/38 .
أمّا المُخْتَلِس :
فأهل العلم على أن المختلس لا تقطع يده .
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى :
" أجمع أهل العلم ، على أنّ الخُلْسَة ، لا قطع فيها ، ولا في الخيانة ؛ ولا أعلم
أحدا أوجب في الخُلْسَة القطع ، إلا إياس بن معاوية ، وسائر أهل العلم ؛ لا يرون
فيها قطعا " .
انتهى من " الاستذكار " ( 24 / 236 ) .
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى :
" فإن اختطف أو اختلس : لم يكن سارقا ، ولا قطع عليه عند أحد علمناه ـ غير إياس بن
معاوية ، قال : أقطع المختلس ؛ لأنه يستخفي بأخذه ، فيكون سارقا ، وأهل الفقه
والفتوى من علماء الأمصار على خلافه " انتهى من " المغني " ( 12 / 416 ) .
والدليل على عدم القطع :
حديث جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( لَيْسَ عَلَى خَائِنٍ
وَلاَ مُنْتَهِبٍ وَلاَ مُخْتَلِسٍ : قَطْعٌ ) رواه الترمذي ( 1448 ) ، وقَالَ
الترمذي : " هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ
الْعِلْمِ " انتهى من " سنن الترمذي " ( 4 / 52 ) ، وصححه الألباني في " إرواء
الغليل " ( 2403 ) .
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( لَيْسَ عَلَى الْمُخْتَلِسِ قَطْعٌ ) رواه ابن ماجه (2592 ) ، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير " ( 4 / 123 ) ، والألباني في " إرواء الغليل " ( 8 / 65 ) .
فإن سئل لماذا تقطع يد
السارق ، ولا تقطع يد المختلس ، وقد يختلس مالا أكثر من السارق ؟
فالجواب عن هذا :
1- السرقة خفية : تُغري السرّاق ، أكثر من أن يغريهم أخذ المال جهرة ، لأن أكثر
السرّاق لا يحبون الفضيحة ؛ لذا جاء الحد على السرقة التي تشتهيها نفوس أكثر
السرّاق ، وهذا كشرب الخمر ، وأكل الميتة والخنزير ؛ فشرب الخمر تشتهيه نفوس كثير
من عصاة المسلمين ، أما أكل الميتة والخنزير فتستقذره نفوس أغلب عصاة المسلمين ؛
لذا جاء الحدّ على شرب الخمر ، ولم يأت على أكل الميتة كما ذكر ذلك أهل العلم .
2- قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم ، وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب فمن تمام
حكمة الشارع أيضا ؛ فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه . فإنه ينقب الدور ، ويهتك
الحِرْز ويكسر القُفل ، ولا يمكن صاحبَ المتاع الاحتراز منه بأكثر من ذلك ، فلو لم
يُشْرَع قطعه : لسرق الناس بعضهم بعضا ، وعظم الضرر ، واشتدت المحنة بالسُّرَّاق .
بخلاف المنتهب والمختلس ؛ فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس ،
فيمكنهم أن يأخذوا على يديه ، ويخلصوا حق المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم ، وأما
المختلس فإنه إنما يأخذ المال على حين غفلة من مالكه ، وغِرَّه ، فلا يخلو من نوع
تفريط يُمكن به المختلس من اختلاسه ، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ ، لا يمكنه
الاختلاس " .
انتهى من " إعلام الموقعين " ( 3 / 285 ) .
3 - عدم قطع يد المختلس ؛ لا يعني عدم العقوبة ، فلولي الأمر أن يعزره ويعاقبه بما
يردعه عن العودة إلى الاختلاس ، فيعاقبه بالضرب أو الحبس ونحو ذلك .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" ولكن يسوغ كفّ عدوان هؤلاء بالضرب والنكال ، والسجن الطويل ، والعقوبة بأخذ المال
" انتهى من " إعلام الموقعين " ( 3 / 285 ) .
عَنْ قَتَادَةَ: " أَنَّ غُلَامًا اخْتَلَسَ طَوْقًا ، فَرُفِعَ إِلَى عَدِيِّ بْنِ
أَرْطَاةَ ، فَسَأَلَ الْحَسَنَ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ،
وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ إِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ ؟ فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ ، فَلَمَّا
اخْتَلَفَا كَتَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، فَكَتَبَ
إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَدْعُوهَا : عَدْوَةَ الظَّهِيرَةِ ،
لَا قَطْعَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ أَوْجِعْ ظَهْرَهُ ، وَأَطِلْ حَبْسَهُ ) رواه ابن
أبي شيبة في " المصنف " ( 14 / 499 بتحقيق عوّامة ) رقم ( 29258 ) .
والله أعلم .