أتمنى أن أتمكن أن أحب الله بصدق ، ولكن لا أعرف كيف يمكنني ذلك ، ولا أدري كيف يكون هذا الحب ، هل هو الحب الناتج عن الخوف من العقاب . قد تقول لي إنه أعطانا كل شيء في هذه الحياة ، ولكن في الوقع نحن لم نطلب أي شيء من ذلك ، ولم يكن لنا خيار القبول أو الرفض ، بالإضافة إلى ذلك أننا لم نكن نعرف أن ما وهبنا إياه في هذه الحياة سوف يستخدمه ليجعلنا نشعر بالسوء حيال أنفسنا ، لعلمه بأننا لن نستطيع أن نوفيه حقه ، وبالتالي سيجعلنا ذلك نظهر في صورة المجرم الجاحد ، فما هذا العطاء الذي تكون عاقبته بمثل هذا السوء ! ولقد خلقنا ضعفاء حتى نقع في السيئات ، وبالرغم من ذلك لا نستطيع أن نعترض إذا ما أراد عقابنا ، مع العلم أنه يستطيع أن يجعل الجميع من أهل الطاعة والصلاح ، ولكنه لم يفعل ذلك ، بالرغم من أنّ عصياننا وطاعتنا له لا تضره ولا تنفعه . اسأل الله أن يغفر لي كل الخطأ الذي قد تلفظت فيه هنا في هذه الرسالة ، ولكن هذه الأفكار تراودني دائماً ، ولا أدعي أنها صحيحة ، ولكنها تسبب لي الحيرة . لذا أرجو منكم مساعدتي للتخلص من هذه الأفكار ، فأنا غير راض عن نفسي .
الحمد لله.
بداية اسمح لنا أن نقول لك إنك أنت من يضع العقبات في وجه حبك لله ، وهي عقبات فكرية مصطنعة سببها شبهات نفسية أكثر منها عقلية !!
فأنت تصنع تماما كذلك الطفل الذي يحبه أبواه ويعطفان عليه ، ويمنحانه أغلى ما يملكان ، وتذوب قلوبهما رحمة وشفقة ورجاء أن يديم الله على ولدهما الصحة والعافية ، وأن يبلغ الله به التوفيق والنجاح والسعادة ، وهم في سبيل ذلك يبذلان كل الأسباب ، بانتقاء أرقى أساليب التربية ، وأفضل المدارس والمعلمين ، وأجمل المنازل، سعادتهما أن يريا البسمة في وجه طفلهما ، والفرحة في قلبه ، والأنس مع أسرته ، وإذا ما أصاب ولدهما مكروه يسير ، أو تعثر في مسيرته ، ضاقت بهما الدنيا بما رحبت ، وضاقت عليهما نفساهما ، وفقدت الحياة كل معنى لها بعيدا عن قلب هذا الطفل وروحه .
ألا ترى أن هذا الطفل سيتشرب قلبه حبا لوالديه أيضا ، وستكون بسمتهما عنده هي كل الدنيا التي يعيش بجميع تفاصيلها ، ولن يجد في قلبه محلا لغير حبهما والتعلق بهما !!
ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو السميع العليم .
هذه هي العلاقة باختصار بين العباد وبين الله ، مع تنزيه الله سبحانه عن كل نقص بشري ... فهو سبحانه وتعالى يحبنا ، خلقنا ليرحمنا ، وأدخلنا فسيح جنته مع بداية خلق أبينا آدم ، وأخبرنا عز وجل أنه الودود ، الكريم ، اللطيف ، العفو ، الغفور ، المنان ، الرحمن ، الرحيم ، الحليم ، وأنه أرحم بنا من رحمة الأم برضيعها ، كما ثبت عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ، فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ قُلْنَا: لاَ، وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا . رواه البخاري (5999) ، ومسلم (2754) .
وهذا يعني أن كل ما سبق تصويره من مشاعر المحبة والرحمة من الوالدين تجاه ولدهما فالله عز وجل أرحم بعباده من ذلك وألطف ، فهو يريد بهم اليسر والتخفيف ، ويغضب للأذى يلحق بعبد من عباده ، حتى إن القطرة تسال من دمه ، تقع موقعا عظيما عند الله سبحانه ، فهو الذي يغذونا بالنعم ، ويتفضل علينا بالكرم .
ولهذا فالعلاقة بين العباد وبين خالقهم ومربيهم هي أولا علاقة المحبة قبل كل شيء ، كما قال سبحانه وتعالى : ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) المائدة/54، هكذا يختصر الله سبحانه وتعالى وصف علاقته بعباده ، وهكذا يجب أن نقرأ الكون والإنسان والحياة .
ثم تذكر ذلك الطفل الذي وصفنا من محبة والديه له ما وصفنا ، لو غفل عن جميع المعاني السابقة ، وترك كل مشاعر السعادة والحب والأمل التي تحدثنا عنها ، وراح يفكر في مقاصد والديه من إنجابه ، وأسرار اختيار هذا النوع من الحياة له ، وكأنه يقول إن والدي أنجباني فهما مضطران للإنعام علي ، وتعمق في مثل هذه التساؤلات ، ألا ترى معنا أنه بذلك يسلك طريق التعاسة والشقاء ، فيفقد كل معاني الحب الذي هو أساس العلاقة بينه وبين والديه، ويتيه في التفكير فيما لا سبيل له إلى الجزم به، مع صغره وضعف عقله وسعة خيارات الدنيا بالنسبة له!!
وهذا ما تريد أن تصنعه بنفسك أيها السائل الكريم ، تريد أن تفسد ما في قلبك من فطرة المحبة لله سبحانه وتعالى ، بما يطرأ عليك من أفكار في عالم غيبي لا تعلم عنه شيئا ، ولا تدري كيف تخوض فيه ، وتترك عالم الشهادة ، وعالم الفطرة ، وعالم السهولة الذي يفسده التكلف والتنطع في التأمل فيما حولك من أمور ، تماما كما يفسد الطفل سعادته ومحبته في أسرته بدعوى التساؤل عن أغراض والديه من تربيته والعطف عليه ، وماذا لو لم يحقق لهما يريدان منه ..!!
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله :
" جميع حركات العالم العلوي والسفلي تابعة للإرادة والمحبة ، وبها تحرك العالم ، ولأجلها ، فهي العلة الفاعلية والغائية ، بل هي التي بها ولأجلها وجد العالم ، فما تحرك في العالم العلوي والسفلي حركة إلا والإرادة والمحبة سببها وغايتها ، بل حقيقة المحبة حركة نفس المحب إلى محبوبه ، فالمحبة حركة بلا سكون ، وكمال المحبة هو العبودية والذل والخضوع والطاعة للمحبوب ، وهو الحق الذي به وله خلقت السموات والأرض ، والدنيا والآخرة ، قال تعالى : ( وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) وقال الله تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ) وقال تعالى : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) " انتهى من " روضة المحبين " (ص/59-60) .
ويقول أيضا رحمه الله :
" إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بنا من أنفسنا في المحبة ولوازمها ، أفليس الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه أولى بمحبته وعبادته من أنفسهم ، وكل ما منه إلى عبده المؤمن يدعو إلى محبته ، مما يحب العبد ويكره ، فعطاؤه ومنعه ، ومعافاته وابتلاؤه ، وقبضه وبسطه ، وعدله وفضله ، وإماتته وإحياؤه ، ولطفه وبره ، ورحمته وإحسانه ، وستره وعفوه ، وحلمه وصبره على عبده ، وإجابته لدعائه ، وكشف كربه ، وإغاثة لهفته ، وتفريج كربته من غير حاجة منه إليه ، بل مع غناه التام عنه من جميع الوجوه ، كل ذلك داع للقلوب إلى تأليهه ومحبته ، بل تمكينه عبده من معصيته وإعانته عليها ، وستره حتى يقضي وطره منها ، وكلاءته وحراسته له ، ويقضي وطره من معصيته ، يعينه ويستعين عليها بنعمه - من أقوى الدواعي إلى محبته ، فلو أن مخلوقا فعل بمخلوق أدنى شيء من ذلك ، لما تملك قلبه عن محبته ، فكيف لا يحب العبد بكل قلبه وجوارحه من يحسن إليه على الدوام بعدد الأنفاس ، مع إساءته ؟ فخيره إليه نازل ، وشره إليه صاعد ، يتحبب إليه بنعمه وهو غني عنه ، والعبد يتبغَّض إليه بالمعاصي وهو فقير إليه ، فلا إحسانه وبره وإنعامه إليه يصده عن معصيته ، ولا معصية العبد ولؤمه يقطع إحسان ربه عنه.
فألأم اللؤم تخلف القلوب عن محبة من هذا شأنه ، وتعلقها بمحبة سواه .
وأيضا فكل من تحبه من الخلق أو يحبك إنما يريدك لنفسه وغرضه منك ، والله سبحانه وتعالى يريدك لك ، كما في الأثر الإلهي : [ عبدي كل يريدك لنفسه ، وأنا أريدك لك ] ، فكيف لا يستحي العبد أن يكون ربه له بهذه المنزلة ، وهو معرض عنه ، مشغول بحب غيره ، قد استغرق قلبه بمحبة سواه ؟
وأيضا، فكل من تعامله من الخلق إن لم يربح عليك لم يعاملك، ولا بد له من نوع من أنواع الربح، والرب تعالى إنما يعاملك لتربح أنت عليه أعظم الربح وأعلاه، فالدرهم بعشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بواحدة وهي أسرع شيء محوا.
وأيضا هو سبحانه خلقك لنفسه ، وخلق كل شيء لك في الدنيا والآخرة ، فمن أولى منه باستفراغ الوسع في محبته ، وبذل الجهد في مرضاته ؟
وأيضا فمطالبك - بل مطالب الخلق كلهم جميعا – لديه ، وهو أجود الأجودين ، وأكرم الأكرمين ، أعطى عبده ، قبل أن يسأله ، فوق ما يُؤَمِّله ، يشكر القليل من العمل وينميه ، ويغفر الكثير من الزلل ويمحوه ، ( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن ) ، لا يشغله سمع عن سمع ، ولا تُغلطه كثرة المسائل ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ، بل يحب الملحين في الدعاء ، ويحب أن يُسأل ، ويغضب إذا لم يسأل ، يستحي من عبده حيث لا يستحي العبد منه ، ويستره حيث لا يستر نفسه ، ويرحمه حيث لا يرحم نفسه ، دعاه بنعمه وإحسانه وأياديه إلى كرامته ورضوانه فأبى ، فأرسل رسله في طلبه ، وبعث إليه معهم عهده ، ثم نزل إليه سبحانه بنفسه ، وقال : ( من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له ) كما قيل :
أدعوك للوصل : تأبى، أبعث رسولي في الطلب *
أنزل إليك بنفسي ، ألقاك في النُّوَّام !!
وكيف لا تحب القلوب من لا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يذهب بالسيئات إلا هو ، ولا يجيب الدعوات ، ويقيل العثرات ، ويغفر الخطيئات ، ويستر العورات ، ويكشف الكربات ، ويغيث اللهفات ، وينيل الطلبات سواه ؟
فهو أحق من ذكر ، وأحق من شكر ، وأحق من عبد ، وأحق من حمد ، وأنصر من ابتُغي ، وأرأف من ملك ، وأجود من سُئل ، وأوسع من أَعطى ، وأرحم من استُرحم ، وأكرم من قُصد ، وأعز من التُجئ إليه ، وأكفى من تُوكل عليه ، أرحم بعبده من الوالدة بولدها ، وأشد فرحا بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا يئس من الحياة ثم وجدها .
وهو الملك لا شريك له ، والفرد فلا ند له ، كل شيء هالك إلا وجهه ، لن يطاع إلا بإذنه ، ولن يُعصى إلا بعلمه ، يطاع فيشكر ، وبتوفيقه ونعمته أطيع ، ويعصى فيغفر ويعفو ، وحقُّه أُضيع ، فهو أقرب شهيد ، وأجل حفيظ ، وأوفى بالعهد ، وأعدل قائم بالقسط ، حال دون النفوس ، وأخذ بالنواصي ، وكتب الآثار ، ونسخ الآجال ، فالقلوب له مفضية ، والسر عنده علانية ، والغيب لديه مكشوف ، وكل أحد إليه ملهوف ، وعنت الوجوه لنور وجهه ، وعجزت القلوب عن إدراك كنهه ، ودلت الفطر والأدلة كلها على امتناع مثله وشبهه ، أشرقت لنور وجهه الظلمات ، واستنارت له الأرض والسماوات ، وصلحت عليه جميع المخلوقات ، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ؛ لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ، ما انتهى إليه بصره من خلقه " . انتهى من " الجواب الكافي " (ص: 229-230) .