الحمد لله.
نبينا الكريم محمد عليه أفضل الصلاة والسلام كان عالما بتعليم الله عز وجل ، وعِلمه
الذي اختصه الله به دون سائر البشر هو علم الوحي والهداية والتشريع ، فهو النور
المبين الذي ابتعثه الله عز وجل للعالمين ، بما يصلح أحوالهم ، وبما يهمهم في
معاشهم ومعادهم ، وبما يعرفهم إلى ربهم جل وعلا .
يقول الله سبحانه وتعالى : ( وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا )
النساء/113 .
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" ( وعلمك ما لم تكن تعلم ) أي : من قبل نزول ذلك عليك " انتهى من " تفسير القرآن
العظيم " (2/410) .
ويقول عز وجل : ( إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى )
النجم/4-5 .
يقول العلامة السعدي رحمه الله :
" ثم ذكر المعلِّم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو جبريل عليه السلام ، أفضل
الملائكة الكرام وأقواهم وأكملهم ، فقال : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) أي : نزل
بالوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام " انتهى من " تيسير الكريم
الرحمن " (818) .
وقال سبحانه وتعالى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا
كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا
نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ ) الشورى/52 .
كل هذه الآيات الكريمات ، تدل على أن ما اختص الله عز وجل به نبيه صلى الله عليه
وسلم هو العلم الذي نزل بالوحي من السماء ، وفيه الهداية للبشرية جمعاء ، وهو
الكتاب الكريم ، والسنة المطهرة . وما عدا ذلك من تجارب الدنيا وخبرتها وعلوم أهل
الأرض فليست المقصودة بالوحي ، ولم ينزل بها العلم الخاص من الرب سبحانه لنبيه
الكريم عليه الصلاة والسلام .
يقول القاضي عياض رحمه الله :
" أما ما يتعلق من [ معارف الأنبياء ] بأمر الدنيا ، فلا يشترط في حق الأنبياء
العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها ، أو اعتقادها على خلاف ما هي عليه ، ولا
وَصْم عليهم فيه.. إذ هممهم متعلقة بالآخرة وأنبائها.. وأمر الشريعة وقوانينها..
وأمور الدنيا تضادها . بخلاف غيرهم من أهل الدنيا الذين ( يعلمون ظاهرا من الحياة
الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون )
ولكنه.. لا يقال إنهم لا يعلمون شيئا من أمر الدنيا !! فإن ذلك يؤدي إلى الغفلة
والبله ، وهم المنزهون عنه .
بل قد أرسلوا إلى أهل الدنيا ، وقُلِّدوا سياسَتَهم وهدايتَهم ، والنظرَ في مصالح
دينهم ودنياهم ، وهذا لا يكون مع عدم العلم بأمور الدنيا بالكلية ، وأحوال الأنبياء
وسيرهم في هذا الباب معلومة ، ومعرفتهم بذلك كله مشهورة..
- وأما إن كان هذا العَقْد [أي: المعرفة والاعتقاد] ، مما يتعلق بالدين : فلا يصح
من النبي صلى الله عليه وسلم إلا العلم به ، ولا يجوز عليه جهله جملة " انتهى من "
الشفا بتعريف حقوق المصطفى " (2/ 269) .
بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم نفي علمه بتفاصيل ما في الدنيا من تجارب وعلوم ، كما
ثبت عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ ، فَقَالَ : ( لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ ) قَالَ
: فَخَرَجَ شِيصًا . فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ : مَا لِنَخْلِكُمْ ؟ قَالُوا : قُلْتَ
كَذَا وَكَذَا . قَالَ : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ ) رواه مسلم
(2363) .
قال ابن حزم رحمه الله :
" فهذه عائشة وأنس لم يدعا في روايتها إشكالا ، وأخبرا أنه صلى الله عليه وسلم
أعلمنا أننا أعلم بما يصلحنا في دنيانا منه . ففي هذا كان يشاور أصحابه ، وأخبرا
أنه صلى الله عليه وسلم جعل أمر آخرتنا إليه ، لا إلى غيره ، وأمر الآخرة هو الدين
والشريعة فقط ، فلم يجعل ذلك صلى الله عليه وسلم إلى أحد سواه ، وبطل بذلك رأي كل
أحد " انتهى من " الإحكام " (2/38) .
ولم يرد عن أحد من المفسرين أو العلماء ، فيما نعلم ، إثبات نسبة العلوم
الطبيعية أو التجريبية ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، خاصة ما يستجد منها بعده ،
فلا يجوز أن يبلغ بنا الغلو بالنبي عليه الصلاة والسلام مقاما لم يثبت في الكتاب
ولا في السنة ، وليس في عدمه منقصة في حقه عليه الصلاة والسلام .
يقول العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله :
" ( وعلمك ما لم تكن تعلم ) هو في معنى قوله تعالى : ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا
الإيمان )، ولا دليل فيه على أن المراد به تعليمه الغيب مطلقا ، بل هو الكتاب
والشريعة ، وخصوصا ما تضمنته هذه الآيات من العلم بحقيقة الواقعة التي تخاصم فيها
بعض المسلمين مع اليهودي " انتهى من " تفسير المنار " (5/329) .
والله أعلم .