الحمد لله.
وهنا نحتاج أن نعرف متى يكون البكاء على الميت رحمة ، فيكون ممدوحا ؟ ومتى يكون مذموما؟ ومتى يكون مباحا ؟
أما البكاء المباح : فهو
الذي يقع من الشخص نتيجة حزن القلب ، من غير تعمد ولا مبالغة . يكون الدافع عليه
رحمة ذلك الميت والشفقة عليه ، فقد عانى سكرات الموت ، وعاين الملائكة ، وانقطع
عمله ، وأقبل على أمر عظيم لا سبيل للفكاك منه ، نسأل الله تعالى السلامة والعافية
.
فيتفكر الإنسان في ذلك فتفيض عيناه رحمة وشفقة على ذلك الميت ، فهذا هو الذي عناه
الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : (هَذِهِ رَحْمَةٌ) .
قال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث المتقدم : " قوله : (هَذِهِ رَحْمَةٌ) أَيْ :
الدَّمْعَة أَثَر رَحْمَة ، أَيْ أَنَّ الَّذِي يَفِيض مِنْ الدَّمْع مِنْ حُزْن
الْقَلْب ، بِغَيْرِ تَعَمُّد مِنْ صَاحِبه وَلَا اِسْتِدْعَاء : لَا مُؤَاخَذَة
عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْمَنْهِيّ عَنْهُ الْجَزَع وَعَدَم الصَّبْر" انتهى .
وقال النووي رحمه الله : " مَعْنَاهُ أَنَّ سَعْدًا ظَنَّ أَنَّ جَمِيع أَنْوَاع
الْبُكَاء حَرَام ، وَأَنَّ دَمْع الْعَيْن حَرَام ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسِيَ فَذَكَرَهُ ، فَأَعْلَمَهُ النَّبِيّ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مُجَرَّد الْبُكَاء وَدَمَعَ العين :
لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا مَكْرُوه ، بَلْ هُوَ رَحْمَة وَفَضِيلَة ، وَإِنَّمَا
الْمُحَرَّم النَّوْح وَالنَّدْب ، وَالْبُكَاء الْمَقْرُون بِهِمَا أَوْ
بِأَحَدِهِمَا ، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْأَحَادِيث : ( أَنَّ اللَّه لَا يُعَذِّب
بِدَمْعِ الْعَيْن وَلَا بِحُزْنِ الْقَلْب وَلَكِنْ يُعَذِّب بِهَذَا أَوْ يَرْحَم
وَأَشَارَ إِلَى لِسَانه ) ، وَفِي الْحَدِيث الْآخَر : ( الْعَيْن تَدْمَع
وَالْقَلْب يَحْزَن وَلَا نَقُول مَا يُسْخِط اللَّه )" انتهى.
وأما البكاء المذموم فهو
الذي يكون فيه شيء من النياحة ، أو الندب ، أو يستدعيه الإنسان ويبالغ فيه ، فيدل
على جزعه وعدم صبره .
وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا جميعا قد مات جميع أولاده الذكور والإناث في
حياته إلا فاطمة رضي الله عنها ، فما سمعنا أنه بكى عليهم دهرا طويلا ، أو أنه كلما
تذكرهم بكى ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يكثر من ذكر زوجته خديجة رضي الله عنها ،
وقد كان يحبها حبا عظيما ، فكان يثني عليها ، ويذكر مواقفها معه ، رضي الله عنها ،
ولم يكن يبكي كلما ذكرها ، مع شدة حبه لها .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا فعله ، وقد قال الله تعالى : ( لَقَدْ
كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) الأحزاب/21 .
قال ابن قاسم رحمه الله في "حاشيته على الروض المربع " (3/153) :
"ويجوز البكاءُ على الميت إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة ، فإن أخبار النهي محمولة
على بكاء معه ندب أو نياحة ، أو أنه كثرة البكاء ، والدوام عليه أيامًا كثيرة ،
فالبكاء المباح ، والحزن الجائز هو ما كان بِدَمْع العين ، ورقة القلب، من غير سخط
لأمر الله ...
والاعتدال في الأحوال ، هو المسلك الأقوم ، فمن أصيب بمصيبة عظيمة ، لا يفرط في
الحزن، حتى يقع في المحذور، من اللّطْمِ والشق ، ولا يفرط في التجلد ، حتى يفضي إلى
القسوة ، والاستخفاف بقدر المصاب ...
فالبكاء على الميت على وجه الرَّحْمَةِ : حسن مستحب ، ولا ينافي الصبر ، بل ولا
الرضي، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه " انتهى .
ثانيا :
مما يعين والدكم على الصبر : أن تذكروه بثواب الصابرين ، ( إِنَّمَا يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) الزمر/10، وروى الترمذي (942) عَنْ
أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا مَاتَ وَلَدُ الْعَبْدِ قَالَ اللَّهُ
لِمَلَائِكَتِهِ : قَبَضْتُمْ وَلَدَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ، فَيَقُولُ
: قَبَضْتُمْ ثَمَرَةَ فُؤَادِهِ ؟ ، فَيَقُولُونَ : نَعَمْ ، فَيَقُولُ : مَاذَا
قَالَ عَبْدِي ؟ فَيَقُولُونَ : حَمِدَكَ وَاسْتَرْجَعَ ، فَيَقُولُ اللَّهُ :
ابْنُوا لِعَبْدِي بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَسَمُّوهُ بَيْتَ الْحَمْدِ) حسنه
الألباني في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " (1408) .
واقرأ على والدك هذا الحديث ، ليعلم أن ثوابه في الصبر والرضى عن الله : خير له من
بقاء ذلك الابن حيا ، وأن الله لا يقضي للمؤمن قضاء إلا وهو خير له .
مات ابن صغير لأحد الصحابة رضي الله عنه ، وقد كان ذلك الصحابي يكثر من مجالسة
النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب ذلك الطفل ، فلما
مات حزن عليه أبوه حزنا شديدا ، حتى منعه ذلك الحزن من حضور مجلس النبي صلى الله
عليه وسلم كما كان يفعل ، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم : فَقَالَ : ( مَالِي
لَا أَرَى فُلَانًا ؟ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بُنَيُّهُ الَّذِي
رَأَيْتَهُ هَلَكَ ، فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ ، فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ ) ،
ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم كلاما يحثه به على الصبر والتحمل ويبين له أن
ذلك القضاء خير له ، فماذا قال له ؟
قَالَ : ( يَا فُلَانُ ، أَيُّمَا كَانَ أَحَبُّ إِلَيْكَ : أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ
عُمُرَكَ ؟ أَوْ لَا تَأْتِي غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا
وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ ؟ ، قَالَ : يَا نَبِيَّ
اللَّهِ ، بَلْ يَسْبِقُنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهَا لِي لَهُوَ
أَحَبُّ إِلَيَّ ، قَالَ : فَذَاكَ لَكَ ) . رواه النسائي (2061) وصححه الألباني في
" أحكام الجنائز " .
ثالثا :
عليكم أن تساعدوا والدكم في الخروج مما هو فيه ، فدائما تجلسون معه وتحادثونه ، ولا
تتركوه وحيدا ، فيذكره الشيطان بموت أخيك ليجعله دائما حزينا ، فإن حزن المسلم مما
يسعى إليه الشيطان ويفرح به : ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ
الَّذِينَ آَمَنُوا ) المجادلة/10.
اصحبوه إلى المسجد ، أو إلى زيارة قريب أو جار أو مريض ، حتى لا يكون عنده فراغ
يتسلل الشيطان من خلاله .
نسأل الله تعالى أن يلهمكم الصبر والرضى ، وأن يعوضكم عما أصابكم خيرا .
والله أعلم .