شبهة في حديث الجساسة في تردد النبي صلى الله عليه وسلم عندما حدد جهة الدجال
سمعت أحدهم مرة يقول - وهو ينفي صحة حديث الجساسة - إن في آخر حديث الجساسة يقول النبي صلى الله عليه وسلم - فيما يقولون عنه - عن مكان خروج الدجال ( ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن . لا ، بل من قبل المشرق ما هو . من قبل المشرق ما هو . من قبل المشرق ما هو . وأومأ بيده إلى المشرق ) .
قال عن هذا الجزء من الحديث : إن كلام النبي صلى الله عليه وسلم محكم ، وهذا الحديث ليس بكلام نبي ؛ لأن النبي مؤيد بالوحي فلا يتخبط بالكلام !!
كيف نجيب عن هذه الشبهة ؟
الجواب
الحمد لله.
استشكل بعض العلماء في القديم والحديث ما ورد في حديث الجساسة ، وأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال في آخره – في وصف مكان الدجال الحالي - : ( أَلَا إِنَّهُ فِي بَحْرِ
الشَّأْمِ ، أَوْ بَحْرِ الْيَمَنِ ، لَا بَلْ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ ،
مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ مَا هُوَ . وَأَوْمَأَ
بِيَدِهِ إِلَى الْمَشْرِقِ ) رواه مسلم (2942) .
فقالوا : كيف يقع هذا التردد للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو معصوم عن الخطأ .
وكان أصرح من اعترض بهذا الاعتراض العلامة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله فقال :
" إن صح الحديث رواية فهذا التردد من النبي صلى الله عليه وسلم في مكان الجزيرة
التي ذكرها تميم الداري في أي البحرين هي ، ثم إضرابه عنهما ، وجزمه بأنه في جهة
المشرق إلخ . إشكال آخر في متنه ، ينظر إلى اختلاف الروايات الأخرى في مكان الدجال
بعين ، وينظر إلى اختلاف الروايات في ابن صياد بالعين الأخرى ، وينظر بالعينين
كلتيهما إلى سبب هذا التردد ومنافاته ؛ لأن يكون كلامه صلوات الله وسلامه عليه في
أمر الدجال عن وحي من الله تعالى " انتهى من " تفسير المنار" (9/412).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" النفس لا تطمئن إلى صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لما في سياق متنه من
النكارة ، وقد أنكره الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره إنكاراً عظيماً ؛ لأن سياقه
يبعد أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم " انتهى من " لقاء الباب المفتوح "
(8/ 28، بترقيم الشاملة آليا).
ولكن يمكننا الجواب على هذه الإشكالية خاصة بجواب واضح ومباشر ، بأن نقول إنه عليه
الصلاة والسلام اجتهد في أول الأمر ، وتردد في اجتهاده ، ثم صوب له الوحي ، أو
استقر به الوحي على قوله ( من قبل المشرق هو ).
وهذه مسألة تغيب عن أذهان بعض الناس ، وهي من القضايا الأصولية المهمة ، تؤدي بهم
إلى مثل هذه الاستشكالات التي نسمعها بين الحين والآخر ، فقد جوز العلماء وقوع
النبي صلى الله عليه وسلم في السهو والشك والخطأ ، ولكن الوحي لا يقره على ذلك ، بل
سرعان ما يصحح له ليستقر الأمر على الحكم الشرعي الصحيح الذي يريده الله سبحانه .
وهذا أمر مقرر في القرآن الكريم ، وفي كتب علماء أصول الفقه .
يقول الله عز وجل : ( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ) الكهف/24، ويقول سبحانه
وتعالى : ( سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه ) الأعلى/6-7، وقال
عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، أَنْسَى كَمَا
تَنْسَوْنَ ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي ) رواه البخاري (401)، ومسلم (572).
ويقول أيضا عليه الصلاة والسلام – في قصة تأبير النخل -: ( إِنِّي إِنَّمَا
ظَنَنْتُ ظَنًّا ، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ
عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ
وَجَلَّ ) رواه مسلم (2361).
فإذا كان عليه الصلاة والسلام اجتهد في حكم أسارى بدر ، وفي الصلاة على المنافقين ،
وأخطأ في اجتهاده ، وجاء الوحي الصريح ببيان الحكم الشرعي الواضح ، فمن باب أولى أن
يقع منه عليه الصلاة والسلام تردد في بعض الجمل والعبارات ، ثم ما يلبث أن يجزم
اجتهاده بما يقره عليه الوحي المعصوم .
يقول القرطبي رحمه الله :
" هذا كله كلام ابتداء على الظن ، ثم عرض الشك ، أو قصد الإبهام ، ثم بقي ذلك كله ،
وأضرب عنه بالتحقيق ، فقال : لا ! بل من قبل المشرق ، ثم أكد ذلك بـ ( ما ) الزائدة
، وبالتكرار اللفظي . فـ ( ما ) فيه زائدة ، لا نافية .
وهذا لا بعد فيه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بشر يظن ويشك ، كما يسهو وينسى ،
إلا أنه لا يتمادى ، ولا يقر على شيء من ذلك ، بل يرشد إلى التحقيق ، ويسلك به سواء
الطريق .
والحاصل من هذا أنه صلى الله عليه وسلم ظن أن الدجال المذكور في بحر الشام ؛ لأن
تميما إنما ركب في بحر الشام ، ثم عرض له أنه في بحر اليمن ؛ لأنه يتصل ببحر متصل
ببحر اليمن ، فيجوز ذلك . ثم أطلعه العليم الخبير على تحقيق ذلك فحقق وأكد ". انتهى
من "المفهم لما أشكل من تلخيص صحيح مسلم" (7/300).
ويقول شرف الدين الطيبي (ت743هـ) رحمه الله :
" ( أو بحر اليمن ) لما حدثهم بقول تميم الداري لم ير أن يبين لهم موطنه ومجلسه كل
التبيين ؛ لما رأى في الالتباس من المصلحة ، فرد الأمر فيه إلى التردد بين كونه في
بحر الشام أو بحر اليمن ، ولم تكن العرب يومئذ تسافر إلا في هذين البحرين .
ويحتمل أنه أراد ببحر الشام ما يلي الجانب الشامي ، وببحر اليمن ما يلي الجانب
اليماني ، والبحر بحر واحد ، وهو الممتد على أحد جوانب جزيرة العرب .
ثم أضرب عن القولين مع حصول اليقين في أحدهما فقال : لا ، بل من قبل المشرق .
[ثم نقل عن الأشرف – أحد العلماء - قوله]: يمكن أنه صلى الله عليه وسلم كان شاكا في
موضعه ، وكان في ظنه أنه لا يخلو عن هذه المواضع الثلاثة ، فلما ذكر بحر الشام وبحر
اليمن ، تيقن له من جهة الوحي أو غلب على ظنه أنه من قبل المشرق ، فنفى الأولين
وأضرب عنهما ، وحقق الثالث " انتهى من " شرح المشكاة المسمى بالكاشف عن حقائق السنن
" (11/ 3465)
ونقل أيضا صاحب " عون المعبود " (11/ 319) عن كتاب " فتح الودود " قوله : " قيل :
هذا شك ، أو ظن منه عليه السلام ، أو قصد الإبهام على السامع ، ثم نفى ذلك ، وأضرب
عنه ، فقال : ( لا ، بل من قبل المشرق ) ثم أكد ذلك بقوله ( ما هو ) و ( ما ) زائدة
لا نافية ، والمراد إثبات أنه في جهة المشرق " انتهى.
وبهذا فقد أصبح الجواب واضحا على هذا الإشكال ، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم
يمكن أن يظن ويجتهد ويخطئ ، ولكن سرعان ما ينسخ الوحي هذا الخطأ ، ويبقى المحكم من
الوحي الذي يقرره النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر .
نرجو بذلك أن يكون الإشكال قد زال .
والله أعلم .