الحمد لله.
جاء في "طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (2 / 61): " حُكيَ أَن أَحْمَد نَاظر
الشَّافِعِي فِي تَارِك الصَّلَاة فَقَالَ لَهُ الشَّافِعِي : يَا أَحْمَد أَتَقول
إِنَّه يكفر ؟، قَالَ: نعم ، قَالَ : إِذا كَانَ كَافِرًا فَبِمَ يسلم ؟ قَالَ:
يَقُول لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ مُحَمَّد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ،
قَالَ الشَّافِعِي: فالرجل مستديم لهَذَا القَوْل لم يتْركهُ ، قَالَ : يسلم بِأَن
يُصَلِّي ، قَالَ : صَلَاة الْكَافِر لَا تصح ، وَلَا يحكم بِالْإِسْلَامِ بهَا
فَانْقَطع أَحْمَد وَسكت ، حكى هَذِهِ المناظرة أَبُو عَلِيّ الْحَسَن بْن عمار من
أَصْحَابنَا ، وَهُوَ رجل موصلي من تلامذة فَخر الْإِسْلَام الشَّاشِي" انتهى.
وهذه المناظرة لا تصح سندا ولا متنا :
أما من ناحية السند فقد قال الألباني : " أن الحكاية لا تثبت ، وقد أشار إلى ذلك
السبكي - رحمه الله - بتصديره إياها بقوله: (حُكِي) ، فهي منقطعة " انتهى من "سلسلة
الصحيحة " (7 / 148).
وأما من حيث المتن ، فلأن الشافعي أعظم قدرا وعلما وفقها من أن يورد هذا الإيراد
الضعيف ؛ لأنه من المعلوم أن من خرج من الإسلام بسبب ، لا يدخل إليه إلا بإزالة هذا
السبب ، مثاله: من كفر بإنكار وجوب الزكاة لا يصح إسلامه إلا بالإقرار بوجوب الزكاة
، ومن كفر بإنكار حرمة الزنا لا يصح إسلامه إلا بالإقرار بحرمة الزنا ، وهذا مقرر
في المذهبين الشافعي والحنبلي معا :
جاء في " أسنى المطالب في شرح روض الطالب " (4 / 124): " (فَإِنْ كَانَ كُفْرُهُ
بِإِنْكَارِ شَيْءٍ آخَرَ) ، مِمَّا لَا يُنَافِي الْإِقْرَارَ بِهِمَا أَوْ
بِإِحْدَاهُمَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ ، (كَمَنْ خَصَّصَ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ
بِالْعَرَبِ ، أَوْ جَحَدَ فَرْضًا ، أَوْ تَحْرِيمًا ؛ فَيَلْزَمُهُ مَعَ
الشَّهَادَتَيْنِ : الْإِقْرَارُ بِمَا أَنْكَرَ )" انتهى.
وفي " الكافي في فقه الإمام أحمد " (4 / 62): " وإن ارتد بجحد فرض ، أو استحلال
محرم ، لم يصح إسلامه حتى يرجع عما اعتقده ، ويعيد الشهادتين " انتهى.
وفي " المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل " (2 / 168): " وتوبة المرتد
وكل كافر : إسلامه ، بأن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، إلا من كان
كفره بجحد فرض ، أو تحريم ، أو تحليل ، أو نبي ، أو كتاب ، أو رسالة محمد صلى الله
عليه وسلم إلى غير العرب ، فتوبته مع الشهادتين : إقراره بالمجحود به " انتهى.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله معلقا على هذه المناظرة :" نقول في هذه المناظرة:
أولاً: أنه يحتاج إلى إثباتها ، أي إلى أن يثبت بأنها وقعت بين الإمام الشافعي
والإمام أحمد رحمه الله ، فلابد من أن تكون ثابتة عنهما بسند صحيح يكون مقبولاً على
حسب شرائط المحدثين .
وأيضاً : مجرد نقل السبكي لها ، وبينه وبين الإمام الشافعي والإمام أحمد مئات
السنين : لا يكون ذلك حجة في ثبوتها عنهما .
ثم إن التعبيرات التي وقعت ، فيها تعبيرات جافة ؛ تعبيرات يبعد جداً أن تصدر من
الإمام الشافعي إلى الإمام أحمد ، مع أنه قد عرف عنه التعظيم الكامل الذي يليق
بمقام الإمام أحمد وبمقام الشافعي ، رحمهم الله جميعاً .
ثم إن هذه المناظرة تخالف المعروف في مذهب الإمام أحمد ؛ فإن المعروف في مذهب
الإمام أحمد أن من كفر بترك الصلاة فإنه لا يكون مسلماً إلا بفعلها ، وأنه إذا
فعلها وصلى : حُكم بإسلامه . هذا هو المعروف من مذهب الإمام أحمد رحمه الله .
وهكذا ينبغي أن يعرف السامع ويعرف السائل : أن من كفر بشيء من الأشياء ، فإنه لا
يسلم بمجرد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، حتى يصحح ما كفر به ،
فمثلاً إذا قدر أنه يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وهو ينكر
فرضية الزكاة أو الصيام أو الحج ؛ فإنه لا يكون مسلماً بقوله أشهد أن لا إله إلا
الله وأن محمداً رسول الله ، حتى يقر بفرضية ما أنكر فرضيته من هذه الأصول .
والمهم أن القاعدة في الكافر المرتد أنه إذا ارتدّ بشيء معين من الكفر : فإنه لا
يغنيه أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، حتى يصحح ما حكمنا بكفره
من أجله .
وعلى هذا نقول : تارك الصلاة كافر ولو شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله
، ولا يكون مسلماً إلا إذا صلى ؛ لأننا كفرناه بسبب ، فلابد أن يزول هذا السبب الذي
من أجله كفرناه ؛ فإذا زال السبب الذي من أجله كفرناه حكمنا بأنه مسلم .
وعلى هذا فيفرق بين الكافر الأصلي الذي يدخل في الإسلام بشهادة أن لا إله إلا الله
وأن محمداً رسول الله ، وبين المرتد بشيء من أنواع الردة ؛ فإنه لا يحكم بإسلامه
حتى ينتفي عنه ذلك الشيء الذي كفرناه به، هذا هو سر المسألة ..." انتهى من " فتاوى
نور على الدرب للعثيمين " .
هذا ، مع التنبيه على أن من ترك الصلاة متعمدا وهو مقر بوجوبها فقد اختلف أهل
العلم في تكفيره ، وقد سبق حكاية هذا الخلاف في الفتوى رقم : (194309). وسبق بيان
القول الراجح في الفتوى رقم : (5208) .
والله أعلم .