لم يصح حديث في إطفاء دمعة التائب نار جهنم وأن الملائكة لا تكتبها
سمعت حديثاً ، وأود معرفة صحته ، والحديث - فيما معناه - : أنّ جبريل عليه السلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنّ الملائكة تسجل أعمال الأمة ، ولكنها لا تسجل دموعها ، وعندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، قال جبريل : إن دمعة تائب من أمته سوف تطفئ نار جهنم .
الجواب
الحمد لله.
أولا :
أقرب ما وجدنا من الأحاديث والروايات التي تدل على ما ورد في السؤال ثلاثة أحاديث ،
نذكرها هنا مع تخريجها وبيان حكمها :
الحديث الأول :
رواه الإمام أحمد في " الزهد " (ص: 25) : حدثنا إبراهيم بن خالد ، حدثنا رباح بن
زيد ، حدثني أبو الجراح ، عن رجل من أصحابهم يقال له خازم : " أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَعِنْدَهُ رَجُلٌ يَبْكِي ، فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : فُلَانٌ ، قَالَ
جِبْرِيلُ : ( إِنَّا نَزِنُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا إِلَّا الْبُكَاءَ ؛
فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُطْفِئُ بِالدَّمْعَةِ بُحُورًا مِنْ نَارِ
جَهَنَّمَ ).
وهذا حديث ضعيف ؛ فيه :
1. أبو الجراح ، لم يتبين لنا من هو ، حيث لم نجد من ذكره في شيوخ رباح بن زيد
الصنعاني ، وإن كان ثمة جماعة في كتب الرجال يكنون بأبي الجراح ، لكن أحدا منهم لم
يذكر في شيوخ رباح ، كما أن منهم مجاهيل .
2. وأبو الجراح هذا يحدث عن رجل مبهم آخر يقال له " خازم "، وهذا كاف في الحكم برد
الحديث ، فالرواة يجب أن يعرفوا ويشتهروا بالعلم والحفظ والعدالة .
3. ويستبعد أن يكون الحديث متصلا مسندا ، فطبقة شيوخ أبي الجراح – على فرض وجوده –
لا تحتمل ذلك ؛ ذلك أن رباح بن زيد الصنعاني متوفى سنة (187هـ)، وهو من صغار أتباع
التابعين ، فشيخه أبو الجراح – في أحسن الأحوال – سيكون من كبار أتباع التابعين ،
فمثله لم يدرك الصحابة الكرام ، فضلا عن إدراك النبي صلى الله عليه وسلم ليحدث عنه
.
الحديث الثاني :
عن النضر بن سعيد ، رفعه قال : ( ما اغرورقت عينا عبد من خشية الله إلا حرم الله
جسده على النار , فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة , ولو أن عبدا بكى في
أمة من الأمم لأنجى الله ببكاء ذلك العبد تلك الأمة من النار , وما من عمل إلا له
وزن أو ثواب إلا الدموع ؛ فإنها تطفئ بحورا من النار ) .
رواه ابن أبي الدنيا في " الرقة والبكاء " (رقم/14) قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء
، قال : أخبرنا سليمان وهو غير التيمي ، عن عبيدة بن حسان ، عن النضر بن سعيد ،
فذكره .
وهذا حديث ضعيف جدا أيضا ، بل منكر ؛ فيه عبيدة بن حسان الذي قال فيه ابن حبان : "
كان ممن يروي الموضوعات " كما في " المجروحين " (2/189).
وفيه النضر بن سعيد : ضعفه ابن قانع ، ولم يوثقه أحد ، وليس هو من الصحابة كي يقبل
رفعه الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم . ينظر " ميزان الاعتدال " (4/256)، وفيه
علل أخرى .
الحديث الثالث :
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما
اغرورقت عين بمائها إلا حرم الله على النار جسد صاحبها ، فإن فاضت على جسد صاحبها
لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة ، وما من عمل إلا وله ثواب إلا الدمعة ، فإنها تطفئ بحور
النار ، ولو أن عبدا بكى في أمة لرحم الله تلك الأمة ببكاء ذلك العبد ) .
رواه ابن عدي في " الكامل في ضعفاء الرجال " (2/ 282) في ترجمة تميم بن خرشف ثم
قال: "روى عن قتادة حديثا منكرا لا يرويه غيره - فذكر هذا الحديث ، ثم قال - وتميم
بن خرشف هذا لا أعرف له رواية غير هذا الحديث ، وهذا الحديث عن قتادة لم يروه عنه
غيره ، وهو منكر يرويه عن تميم عثمان الطرائفي " انتهى.
ثانيا :
وردت بعض الآثار عن التابعين والصالحين تحمل هذا المعنى نفسه ، فمن ذلك :
قال فرقد السبخي : " بلغنا أن الأعمال كلها توزن , إلا الدمعة تخرج من عين العبد من
خشية الله فإنه ليس لها وزن ولا قدر؛ وإنه ليطفأ بالدمعة البحور من النار " .
رواه ابن أبي الدنيا في" الرقة والبكاء " (ص46) .
وعن خالد بن معدان قال : " إن الدمعة لتطفئ البحور من النيران ، فإن سالت على خد
باكيها ، لم ير ذلك الوجه النار , وما بكى عبد من خشية الله إلا خشعت لذلك جوارحه ،
وكان مكتوبا في الملأ الأعلى باسمه واسم أبيه ، منورا قلبه بذكر الله " .
رواه ابن أبي الدنيا في" الرقة والبكاء " (ص48) .
ونحوها عن هارون بن رئاب ، وابن ذر ، وأبي عمران الجوني ، كلها يرويها ابن أبي
الدنيا في كتابه " الرقة والبكاء " (ص52، 55، 57)، وعن يزيد بن ميسرة في " الزهد "
لأبي داود (ص393)، وعن الحسن البصري في " شعب الإيمان " (2/242)، وعن بشر بن الحارث
في " تاريخ بغداد " (20/62)، وغيرهم في كتب أخرى .
ولكن لا يخفى أن الآثار عن التابعين والصالحين ، على فرض ثبوتها عنهم ، ليست حجة
بمجردها ، وليست من الوحي الصادق ؛ بل هي تحتمل الحديث على سبيل الاجتهاد والقياس
والترغيب والترهيب فحسب .
ثالثا :
يكفي في فضل البكاء من خشية الله : ما صح عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال : قالَ
رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : ( لا يَلِجُ النَّارَ رَجْلٌ بَكَى
مِنْ خَشْيَةِ اللَّه حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْع ، وَلا يَجْتَمعُ
غُبَارٌ في سَبِيلِ اللَّه ودُخانُ جَهَنَّمَ ) .
رواه الترمذي (1633) ، والنسائي (3108) ، وصححه الألباني .
وقوله " حتى يعود اللبن في الضرع " : " هذا من باب التعليق بالمحال كقوله تعالى : (
حتى يلج الجمل في سم الخياط ) " انتهى من " تحفة الأحوذي " .
وقد صنف في فضل دمعة التائب أو دمعة الخاشع كل من ابن أبي الدنيا في رسالته " الرقة
والبكاء "، وابن قدامة في " الرقة والبكاء "، وعقد لها ابن رجب بابا خاصا في رسالته
" التخويف من النار " .
وانظر في الفتوى رقم : (46911) في الموقع
.
والخلاصة : أن الأحاديث المروية في عدم كتابة دمعة التائب لأنها تطفئ بحورا من
النار كلها أحاديث شديدة الضعف والوهاء ، لم يروها سوى المجاهيل والمناكير ، وإنما
ورد هذا من كلام بعض الصالحين ، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم .