لدي شكوك حول بعض الأشياء التي تمارس في الهند ، فآمل أن توجهني إلى الطريق الصحيح إن شاء الله .
السؤال الأول هو :
يذهب أبي لزيارة أحد القبور ( المزارات ) ، ويدعو هناك لكي يكون بصحة جيدة ، ويطلب البركة من الشخص الذي يعتني بالمزار ، فهل يجوز طلب البركة من القبر ( المزار ) أو من الشخص الذي يقوم على المزار ؟
السؤال الثاني :
حصل نقاش بيني وبين والدي ، فقال : إن الحصول على البركة من هناك أهم بكثير من صلاة الفرض ، فهل هذا صحيح ، فوالدي يؤمن بأنّ بركة المزار تأثيرها ونفعها أكبر من صلاة الفرض ؟
السؤال الثالث :
أنوي فتح مشروع تجاري جديد ، ووجدت مكاناً أريد أن استأجره ، وعندما ذهب أبي ليسأل القائم على المزار أخبره بأنّ المكان الذي أريد استئجاره ليس بجيد ، وأنّ التراب سيء في ذلك المكان . سؤالي هو : أنا أصلي وأثق بالله سبحانه وتعالى ، فهل ينبغي لي أن آخذ كلامه على محمل الجد ، وأبحث عن مكان آخر ؟
الحمد لله.
نحن نربأ بك – أخانا السائل – أن تقودك اعتقادات والدك الخاطئة إلى مخالفة الشرع
والعقل معا، وإلى الرجوع القهقرى – لا قدر الله – لفكر الخرافة الذي جاء الإسلام
بمحاربته وإزالته ، فقد كان كفار قريش يتعلقون بالموتى ، ويعتقدون فيهم التأثير في
حياتهم ، والنفع والضر ، ولذلك كانوا يخشون سطوة الأموات وهم في قبورهم ، ويؤمنون
بأنهم قادرون على جلب السعادة والمنفعة لهم ، فصارت حياتهم مليئة بالأوهام ،
وأعمالهم تسوقها الأساطير ، وفرضت قيود الخرافات على بني البشر ، فجاء الإسلام
بكسرها ، وإطلاق العقل البشري من وهن وساوس الشياطين ، إلى حرية العبودية لله
سبحانه ، والتعلق بالخالق جل وعلا وحده لا شريك له ، والانطلاق في عمارة الأرض وفق
عقيدة " الأسباب " التي بني الكون عليها ، وليس وفق أوهام القبور والمزارات .
يقول الله عز وجل : ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ
دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ
اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ .
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ
فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ . وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ
فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ
يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . قُلْ يَا
أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى
فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا
أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ . وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى
يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ) يونس/104-109.
ويقول عز وجل : ( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ
شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ . أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) النحل/20-21.
فالأموات لا يمنحون البركة ، مهما علا مقامهم عند الله ، وإنما يمنح البركة رب
هؤلاء الأموات ، هو الخالق جل وعلا ، الذي أمرنا أن ندعوه وحده ، ولا ندعو غيره ،
ولا نطلب الصحة والسلامة والسعادة إلا منه سبحانه وتعالى ، وهذا معنى ما نكرره في
صلاتنا يوميا حين نقرأ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) الفاتحة/5 ،
أي لا نستعين إلا بك يا رب ، في جميع أمورنا ، وخاصة في الأمور التي لا يقدر عليها
البشر ، كمنح البركة والعافية ، فإذا اعتقدنا أن البشر يمنحون الشفاء والرزق
والهداية والسعادة والمال والولد والحماية والوقاية من الشر ، فماذا أبقينا لله
سبحانه !! وما الفرق بيننا وبين من يعتقد بتعدد الآلهة في هذا الكون !!
وإذا أردت أن تقتدي بأحد فلا قدوة أفضل من قدوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ،
الذي حكى القرآن عنه توحيده رب العزة بالدعاء ، وتوحيده أيضا باعتقاد النفع والضر
للعباد ، فقال جل وعلا : ( قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ .
أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ . فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ
الْعَالَمِينَ . الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي
وَيَسْقِينِ . وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ . وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ
يُحْيِينِ . وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ )
الشعراء/75-82.
والمسلم لا يرخي العنان لخواطره المتأثرة بأساطير الأولين ، لتحكم تصوراته عن عالم
الغيب ، بل ينتظر ما يمليه الوحي من الله عز وجل ، المتمثل في الكتاب والسنة
الصحيحة ، ليعتقد ويؤمن ، فالوحي هو النور الذي أنزله الله للبشرية جمعاء ، فمن
تركه فقد آثر الضلال على الهدى ، ومن تبعه فقد اهتدى ، وحينئذ ستعلم أن الأدلة من
القرآن الكريم والسنة المطهرة لم ترد بإثبات البركة للقبور ، ولا بالدعاء لها أو
عندها .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" أن يتحرى الدعاء عند [ القبور ] بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره ،
فهذا النوع منهي عنه ، إما نهي تحريم أو تنزيه ، وهو إلى تحريم أقرب .
فإن الرجل لو تحرى الدعاء عند صنم أو صليب ، أو كنيسة يرجو الإجابة بالدعاء في تلك
البقعة ، لكان هذا من العظائم .
بل لو قصد بيتا أو حانوتا في السوق ، أو بعض عواميد الطرقات يدعو عندها ، يرجو
الإجابة بالدعاء عندها ، لكان هذا من المنكرات المحرمة ؛ إذ ليس للدعاء عندها فضل .
فقصد القبور للدعاء عندها من هذا الباب ، بل هو أشد من بعضه ؛ لأن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن اتخاذها مساجد ، واتخاذها عيدا ، وعن الصلاة عندها ، بخلاف كثير
من هذه المواضع . وما يرويه بعض الناس من أنه قال : ( إذا تحيرتم في الأمور
فاستعينوا بأهل القبور )، أو نحو هذا، فهو كلام موضوع مكذوب باتفاق العلماء .
والذي يبين ذلك أمور :
أحدها : أنه قد تبين أن العلة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأجلها عن الصلاة
عندها : إنما هو لئلا تتخذ ذريعة إلى نوع من الشرك ، بالعكوف عليها ، وتعلق القلوب
بها رغبة ورهبة .
ومن المعلوم أن المضطر في الدعاء ، الذي قد نزلت به نازلة فيدعو لاستجلاب خير ،
كالاستسقاء ، أو لرفع شر كالاستنصار حاله في افتتانه بالقبور - إذا رجا الإجابة
عندها - أعظم من حال من يؤدي الفرض عندها في حال العافية ، فإن أكثر المصلين - في
حال العافية - لا تكاد قلوبهم تفتن بذلك إلا قليلا ، أما الداعون المضطرون ففتنتهم
بذلك عظيمة جدا .
فإذا كانت المفسدة والفتنة التي لأجلها نهي عن الصلاة متحققة في حال هؤلاء ، كان
نهيهم عن ذلك أوكد وأوكد . وهذا واضح لمن فقه في دين الله ، وتبين له ما جاءت به
الحنفية من الدين الخالص لله ، وعلم كمال سنة إمام المتقين في تجريد التوحيد ، ونفي
الشرك بكل طريق .
الثاني : أن قصد القبور للدعاء عندها ، ورجاء الإجابة بالدعاء هنالك ، رجاءً أكثرَ
من رجائها بالدعاء في غير ذلك الموطن ؛ أمر لم يشرعه الله ولا رسوله ، ولا فعله أحد
من الصحابة ولا التابعين ، ولا أئمة المسلمين ، ولا ذكره أحد من العلماء ولا
الصالحين المتقدمين ، بل أكثر ما ينقل من ذلك عن بعض المتأخرين بعد المائة الثانية
.
وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجدبوا مرات ، ودهمتهم نوائب غير ذلك ،
فهلا جاءوا فاستسقوا واستغاثوا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؟
بل خرج عمر بالعباس فاستسقى به ، ولم يستسق عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم .
بل قد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كشفت عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لينزل
المطر ، فإنه رحمة تنزل على قبره ، ولم تستسق عنده ، ولا استغاثت هناك .
ولهذا لما بنيت حجرته على عهد التابعين - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم تركوا
في أعلاها كوة إلى السماء ، وهي إلى الآن باقية فيها ، موضوع عليها مشمع على أطرافه
حجارة تمسكه .
وقد كان من قبور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمصار عدد كثير ، وعندهم
التابعون ، ومن بعدهم من الأئمة ، وما استغاثوا عند قبر صاحب قط ، ولا استسقوا عند
قبره ولا به ، ولا استنصروا عنده ولا به .
ومن المعلوم أن مثل هذا مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله ، بل على نقل ما هو دونه
.
ومن تأمل كتب الآثار ، وعرف حال السلف ، تيقن قطعا أن القوم ما كانوا يستغيثون عند
القبور ، ولا يتحرون الدعاء عندها أصلا ، بل كانوا ينهون عن ذلك من كان يفعله من
جهالهم ، كما قد ذكرنا بعضه .
فلا يخلو : إما أن يكون
الدعاء عندها أفضل منه في غير تلك البقعة ، أو لا يكون .
فإن كان أفضل لم يجز أن يخفى علم هذا عن الصحابة والتابعين وتابعيهم ؛ فتكون القرون
الثلاثة الفاضلة جاهلة بهذا الفضل العظيم ، ويعلمه من بعدهم ، ولم يجز أن يعلموا ما
فيه من الفضل العظيم ويزهدوا فيه ، مع حرصهم على كل خير ، لا سيما الدعاء ، فإن
المضطر يتشبث بكل سبب ، وإن كان فيه نوع كراهة ، فكيف يكونون مضطرين في كثير من
الدعاء ، وهم يعلمون فضل الدعاء عند القبور ، ثم لا يقصدونه ، هذا محال طبعا وشرعا
.
وإن لم يكن الدعاء عندها
أفضل ، كان قصد الدعاء عندها ضلالة ومعصية ، كما لو تحرى الدعاء وقصده عند سائر
البقاع التي لا فضيلة للدعاء عندها ، من شطوط الأنهار ، ومغارس الأشجار وحوانيت
الأسواق ، وجوانب الطرقات ، وما لا يحصي عدده إلا الله .
وهذا الدليل قد دل عليه كتاب
الله في غير موضع ، مثل قوله تعالى : ( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ )الشورى/21 ؛ فإذا لم يشرع الله استحباب
الدعاء عند المقابر ولا وجوبه ؛ فمن شرعه فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله .
وقال تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا
بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا
لَا تَعْلَمُونَ )الأعراف/33 .
وهذه العبادة عند المقابر
نوع من أن يشرك بالله ما لم ينزل به سلطانًا ، لأن الله لم ينزل حجة تتضمن استحباب
قصد الدعاء عند القبور وفضله على غيره ؛ ومن جعل ذلك من دين الله فقد قال على الله
ما لا يعلم .
وما أحسن قوله تعالى : ( مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا )الأعراف/ 33 ؛ لئلا
يحتج بالمقاييس والحكايات .
ومثل هذا قوله تعالى في
حكايته عن الخليل : ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ
وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي
شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ . وَكَيْفَ
أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا
لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ
بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ . وَتِلْكَ
حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ
نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )الأنعام/ 80 – 83 .
فإن هؤلاء المشركين الشرك الأكبر والأصغر ، يخوفون المخلصين بشفعائهم .
فيقال لهم : نحن لا نخاف هؤلاء الشفعاء الذين لكم ، فإنهم خلق من خلق الله ، لا
يضرون إلا بعد مشيئة الله ، فمن مسه بضر فلا كاشف له إلا هو ، ومن أصابه برحمة فلا
راد لفضله . وكيف نخاف هؤلاء المخلوقين الذين جعلتموهم شفعاء وأنتم لا تخافون الله
، وقد أحدثتم في دينه من الشرك ما لم ينزل به وحيا من السماء ؟! فأي الفريقين أحق
بالأمن ؟ من كان لا يخاف إلا الله ، ولم يبتدع في دينه شركاء ، أم من ابتدع في دينه
شركا بغير إذنه ؟ بل من آمن ولم يخلط إيمانه بشرك فهؤلاء من المهتدين . وهذه الحجة
المستقيمة التي يرفع الله بها وبأمثالها أهل العلم " انتهى باختصار من " اقتضاء
الصراط المستقيم " (2/195-203) .