الحمد لله.
أولا :
الواجب على المسلم أن يكون الاستهزاء بالدين من دواعي غمه وغضبه ، وأن لا تفتر
شفتاه لشيء من الاستهزاء به أبدا .
والواجب على السائل إنكار هذا المنكر ، والمبادرة بالانصراف عن هذا المجلس وأمثاله
، لأن الله يقول ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ
آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ
حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ) النساء / 140
ولا شك أن من يجلس في هذه المجالس ، من غير أن ينكر المنكر فيها ، أو يغيره ،
بقدر استطاعته : على خطر عظيم .
وأقل ما يقتضيه إنكار هذه المنكرات : أن يغضب لله فيها ، ويكره عملها ، ويتبرأ منها
، ويبرأ إلى الله منها .
فإذا قدر أنه جلس في مثل هذه المجالس : غافلا عما يدور فيها من المنكر ، أو غافلا
عن حكم الله فيها ؛ فمثل هذا يرجى له أن يكون في مقام العفو من الله ، وعدم
المؤاخذة عليها ؛ لكن الواجب عليه أن يبادر إلى هجر أماكن المنكر ، وأهله ، متى
أفاق وتبين له ذلك ، خاصة المنكرات الكبيرة التي يكون فيها استهزاء بالدين ، أو ردة
عنه ، وعدم تعظيم لحدوده وشعائره ؛ وقد قال الله تعالى : (وَإِذَا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ
الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) الأنعام/68 .
قال ابن جرير رحمه الله :
" وإن أنساك الشيطان نهينا إياك عن الجلوس معهم والإعراض عنهم في حال خوضهم في
آياتنا، ثم ذكرت ذلك ، فقم عنهم ، ولا تقعد بعد ذكرك ذلك مع القوم الظالمين الذين
خاضوا في غير الذي لهم الخوضُ فيه بما خاضوا به فيه. وذلك هو معنى" ظلمهم " في هذا
الموضع ". انتهى من "تفسير الطبري" (11/436) .
وقال ابن كثير رحمه الله :
ثُمَّ قَالَ: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ) أَيْ :
بِالتَّكْذِيبِ وَالِاسْتِهْزَاءِ ( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ ) أَيْ : حَتَّى يَأْخُذُوا فِي كَلَامٍ آخَرَ غَيْرِ مَا كَانُوا
فِيهِ مِنَ التَّكْذِيب ِ، ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ) وَالْمُرَادُ
بِهَذَا كُلُّ فَرْدٍ ، فَرْدٌ مِنْ آحَادِ الْأُمَّةِ ، أَلَّا يَجْلِسَ مَعَ
الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُحَرِّفُونَ آيَاتِ اللَّهِ وَيَضَعُونَهَا عَلَى
غَيْرِ مَوَاضِعِهَا ، فَإِنْ جَلَسَ أَحَدٌ مَعَهُمْ نَاسِيًا ( فَلا تَقْعُدْ
بَعْدَ الذِّكْرَى ) بَعْدَ التَّذَكُّرِ ( مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ...
وَقَالَ السُّدِّي، عَنْ أَبِي مَالِكٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر فِي قَوْلِه : (
وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ) قَالَ : إِنْ نَسِيتَ فَذَكَرْتَ ، فَلَا
تَجْلِسْ مَعَهُمْ . وَكَذَا قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ " انتهى من " تفسير ابن
كثير" (3/278) .
وقال السعدي رحمه الله :
" ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ) أي : بأن جلست معهم ، على وجه النسيان
والغفلة . ( فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) يشمل
الخائضين بالباطل ، وكل متكلم بمحرم ، أو فاعل لمحرم ، فإنه يحرم الجلوس والحضور
عند حضور المنكر ، الذي لا يقدر على إزالته .
هذا النهي والتحريم ، لمن جلس معهم ، ولم يستعمل تقوى الله ، بأن كان يشاركهم في
القول والعمل المحرم ، أو يسكت عنهم ، وعن الإنكار ، فإن استعمل تقوى الله تعالى ،
بأن كان يأمرهم بالخير ، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم ، فيترتب على ذلك
زوال الشر أو تخفيفه ، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم ". انتهى من " تفسير السعدي"
(260) .
فإن كان جلوسك في مكان هذه المنكرات ، أو تبسمك : عن غفلة ونسيان : أن هذا منكر ،
لا يجوز استماعه ، ولا شهود مجلسه ، أو عن غفلة ونسيان لنهي الله عن الجلوس في هذه
الأماكن ، وعن حكم الله في ذلك ، فالواجب عليك أن تهجر مكان المنكر عند تذكرك ،
وألا تتمادى فيه ، وأن تظهر غضبك منه ، وكرهك لهذه المنكرات ، حتى لا يظن ظان أن
تبسمك ، وجلوسك : هو من الرضا بها ، وعدم إنكارها .
وينظر جواب السؤال رقم : (191318) .
ثانيا :
خطؤك على أختك ، الذي ذكرته في سؤالك : لا يعد خطأ على القرآن كما هو واضح ، ويجب
عليك الاستسماح منها ، وأن تبين لها الصواب باللين وبالتي هي أحسن ، وأن كلام أهل
العلم يساعد في فهم القرآن ويوضح ما غمض علينا منه ، ويوضح وجه هذا الكلام في لغة
العرب ، التي يغيب العلم بها عن كثير من الناس ، خاصة غير العرب العارفين بلسانها .
ثم إن يبين ما إذا كان للدليل مخصِّص أو مقيِّد أو ناسخ أو غير ذلك .
وقد روي عن أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه ، أنه دخل يوماً
مسجد الجامع بالكوفة فرأى فيه رجلاً يعرف بعبد الرحمن بن دأب ، وكان صاحباً لأبي
موسى الأشعري وقد تحلق عليه الناس ، يسألونه ويخلط الأمر بالنهي والإباحة بالحظر .
فقال له علي رضي الله عنه : أَتَعْرِفُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ ؟ قَالَ : لا .
قال : هلكت وأهلكت ، أبو من أنت ؟ فقال : أبو يحيى ، فقال له علي رضي الله عنه أنت
أبو إعرفوني ، وأخذ أذنه ففتلها ، فقال : لا تقصن في مسجدنا بعد ". انتهى من "
الناسخ والمنسوخ " (ص18) .
وإن مما يؤسف له في هذا الزمان ، الجرأة على تفسير القرآن بما يخالف ما قاله أكابر العلماء من الصحابة والتابعين ؛ لأجل موافقة الواقع المهزوم الذي يعيشه المسلمون ، أو يتكلف له موافقة بعض المخترعات العصرية ، أو ليوافق هوى في الشخص ، أو حزبه ، أو مذهبه ..
قال ابن تيمية رحمه الله : " إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ، رجعت
في ذلك إلى أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك ؛ لما شاهدوه من القرآن ، والأحوال
التي اختُصُّوا بها ، ولما لهم من الفهم التام ، والعلم الصحيح ، لا سيما علماؤهم
وكبراؤهم ". انتهى من " مجموع الفتاوى " (13/364)
وقال أيضا في " مجموع الفتاوى " (15/94) : " من تدبر القرآن وتدبر ما قبل الآية وما
بعدها وعرف مقصود القرآن : تبين له المراد ، وعرف الهدى والرسالة..
وأما تفسيره بمجرد ما يحتمله اللفظ المجرد عن سائر ما يبين معناه : فهذا منشأ الغلط
من الغالطين ؛ لا سيما كثير ممن يتكلم فيه بالاحتمالات اللغوية.. وأعظم غلطا من
هؤلاء.. من لا يكون قصده معرفة مراد الله ؛ بل قصده تأويل الآية بما يدفع خصمه عن
الاحتجاج بها " انتهى.
وقال أيضا رحمه الله وغفر الله في " مجموع فتاوى " (13/243) " من فسر القرآن أو الحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين : فهو مفتر على الله ، ملحد في آيات الله ، محرف للكلم عن مواضعه ، وهذا فتح لباب الزندقة والإلحاد وهو معلوم البطلان بالاضطرار من دين الإسلام " انتهى .
والله أعلم .