الحمد لله.
يكره للإنسان أن يبول في
مكان اغتساله ؛ لما جاء عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي مُسْتَحَمِّهِ
، فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ مِنْهُ ).
رواه الترمذي (21) ، والنسائي (36) ، وأبو داود (27) ، وصححه ابن القطان في " بيان
الوهم والإيهام" (5/606) ، والمنذري في " الترغيب والترهيب " (1/111) ، وحسنه
النووي في "خلاصة الأحكام" (1/156) ، وصححه العراقي ، والشيخ مقبل الوادعي في "
الصحيح المسند" (903).
وتكلم فيه بعضهم لأن في إسناده : أشعث بن عبد الله الأعمى ، وفيه كلام ، وصححه
الألباني في " ضعيف الترمذي" (21) دون زيادة : ( فَإِنَّ عَامَّةَ الْوَسْوَاسِ
مِنْهُ )، لأن الفقرة الأولى جاء ما يشهد لها ، بخلاف هذه الجملة.
ففي سنن النسائي (238) ، وأبي داود (28) عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
قَالَ : " لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْبَعَ سِنِينَ ، قَالَ :
نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَبُولَ أحدنا فِي
مُغْتَسَلِهِ " .
صححه النووي في " المجموع " (2/ 91) ، وصححه الألباني .
قال ابن الأثير: " المُسْتَحَمّ : الْمَوْضِعُ الَّذِي يُغْتَسل فِيهِ بالحَمِيم ،
وَهُوَ فِي الْأَصْلِ : الْمَاءُ الحارُّ ، ثُمَّ قِيلَ للاغتِسال بأيِّ مَاءٍ
كَانَ اسْتِحْمَامٌ " .
انتهى من " النهاية في غريب الحديث والأثر" (1/445).
وقوله : ( إِنَّ عَامَّةَ الْوِسْوَاسِ مِنْهُ ) " أَيْ أَكْثَرُ الْوِسْوَاسِ
يَحْصُلُ مِنْ الْبَوْلِ فِي الْمُغْتَسَلِ , لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَوْضِعُ
نَجِسًا فَيَقَعُ فِي قَلْبِهِ وَسْوَسَةٌ بِأَنَّهُ هَلْ أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ
رَشَاشِهِ أَمْ لَا " .
انتهى من " تحفة الأحوذي" (1/81).
قال الشوكاني : " وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْبَوْلِ فِي مَحَلِّ
الِاغْتِسَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى أَثَرُهُ ، فَإِذَا انْتَضَحَ إلَى
الْمُغْتَسَلِ شَيْءٌ مِنْ الْمَاءِ بَعْد وُقُوعِهِ عَلَى مَحَلِّ الْبَوْلِ
نَجَّسَهُ ، فَلَا يَزَالُ عِنْد مُبَاشَرَةِ الِاغْتِسَالِ مُتَخَيَّلًا لِذَلِكَ
فَيُفْضِي بِهِ إلَى الْوَسْوَسَةِ الَّتِي عَلَّلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ النَّهْيَ بِهَا" .
انتهى من " نيل الأوطار" (1/114).
وقال الشيخ ابن عثيمين : " المعنى: أن الإنسان لا يبول في المكان الذي يغتسل فيه أو
يستحم؛ لأنه يتولد منه الوسواس ، فيقول مثلاً: قد يكون أصاب ثوبي أو بدني ، أو هل
هو كذا، فيعطي له الوسواس ؛ لأنه لن يتيقن أن النجاسة أصابته برشاش" .
انتهى من " لقاء الباب المفتوح " (186/ 30، بترقيم الشاملة آليا) .
وقيَّد كثير من العلماء هذا النهي بقيدين :
الأول : أن يكون في الحمامات والمغتسلات التي ليس لها تصريف ، أما إذا كان لمكان
الاغتسال بالوعة يجري فيها الماء ، فلا حرج من التبول فيه .
ينظر: "معالم السنن" للخطابي (1/22).
قال عطاء : " إذا كان له مخرج ، فلا بأس به " انتهى من "مصنف عبد الرزاق" (1/256).
قال ابن المنذر : " والذي قاله عطاء حسن" انتهى من " الأوسط" (1/344).
وَقَالَ عبد الله بْنُ الْمُبَارَكِ : " قَدْ وُسِّعَ فِي الْبَوْلِ فِي
الْمُغْتَسَلِ إِذَا جَرَى فِيهِ الْمَاءُ " .
انتهى من "سنن الترمذي" (1/ 75).
وقال الدميري : " هذا إذا لم يكن مسلك يذهب فيه البول ، كالأخلية المعدَّة لذلك" .
انتهى من " النجم الوهاج في شرح المنهاج " (1/ 295).
الثاني : أن تكون أرض الحمام
الذي يغتسل فيه لينة أو ترابية ، بحيث لو نزل فيه البول شربته الأرض واستقر فيها ،
فيكون ذلك سبباً للوسوسة بإصابته للنجاسة ، أما إن كانت الأرض صلبةً كنحو بلاط بحيث
يجري عليه البول ، فلا نهي.
قَالَ ابْن مَاجَه : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيَّ
بْنَ مُحَمَّدٍ الطَّنَافِسِيَّ يَقُولُ : " إِنَّمَا هَذَا فِي الْحَفِيرَةِ ،
فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا ، فَمُغْتَسَلَاتُهُمْ الْجِصُّ ، وَالصَّارُوجُ ،
وَالْقِيرُ ، فَإِذَا بَالَ فَأَرْسَلَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ، لَا بَأْسَ بِهِ "
انتهى من "سنن ابن ماجه" (304) .
وَالصَّارُوجُ : خليط يستعمل في طلاء الجدران والأحواض .
وَالْقِيرُ: الزفت .
قَالَ الْحَافِظُ وَلِيُّ الدِّينِ الْعِرَاقِيُّ : " حَمَلَ جَمَاعَةٌ مِنْ
الْعُلَمَاءِ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْمُغْتَسَلُ لَيِّنًا ،
وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَذٌ بِحَيْثُ إِذَا نَزَلَ فِيهِ الْبَوْلُ شَرِبَتْهُ
الْأَرْضُ ، وَاِسْتَقَرَّ فِيهَا ، فَإِنْ كَانَ صُلْبًا بِبَلَاطٍ وَنَحْوِهِ
بِحَيْثُ يَجْرِي عَلَيْهِ الْبَوْلُ وَلَا يَسْتَقِرُّ ، أَوْ كَانَ فِيهِ
مَنْفَذٌ كَالْبَالُوعَةِ وَنَحْوِهَا ، فَلَا نَهْيَ " انتهى ، نقله عنه في
السيوطي في "حاشيته على النسائي" (1/31).
وقال ابن القيم : " لَوْ كَانَ الْمَكَان مُبَلَّطًا ، لَا يَسْتَقِرّ فِيهِ
الْبَوْل , بَلْ يَذْهَب مَعَ الْمَاء ، لَمْ يُكْرَه ذَلِكَ عِنْد جُمْهُور
الْفُقَهَاء " انتهى من " تهذيب السنن" (1/118).
وقد سبق في جواب السؤال : (4026) سؤال
الشيخ ابن عثيمين : هل التبول في البانيو أثناء الاستحمام يدخل في حديث النهي عن أن
يبول الشّخص في مكان استحمامه ؛ لأن مجرى الماء مفتوح فلا يدخل ؟
فقال: " لا ، لا يدخل ؛ لأنه إذا بال فسوف يريق عليه الماء ، ثم يزول البول ، لكن
لا يستحم حتى يزيل البول بإراقة الماء عليه " انتهى .
والحاصل:
أن العلة من النهي في مكان الاغتسال خشية أن يصيب الإنسان شيء من هذا البول دون أن
يشعر ، فيقع في الوسواس ، وعلى هذا ، فإن تبول في مكان فيه تصريف وأتبعه الماء ،
فلا حرج ؛ لانتفاء العلة .
وما سبق من النهي محمول عند عامة العلماء على الكراهة .
ففي " الموسوعة الفقهي ة" (43/ 154) : " نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى كَرَاهَةِ الْبَوْل فِي مَكَانِ الاِسْتِحْمَامِ " انتهى .
قال الشوكاني : " وَرَبَطُ النَّهْيَ بِعِلَّةِ إفْضَاءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إلَى
الْوَسْوَسَةِ ، يَصْلُحُ قَرِينَةً لِصَرْفِ النَّهْيِ عَنْ التَّحْرِيمِ إلَى
الْكَرَاهَةِ " انتهى من " نيل الأوطار" (1/ 114) .
والله أعلم .