أخرج الإمام أحمد بسند على شرط الشيخين وغيره عن أبي هريرة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إذا نودي للصلاة وأحدكم جُنُب فلا يصم يومئذ ) . وهذا الحديث كما قال العلماء مخالف لما في الصحاح عن عائشة وعن أم سلمة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا ، ثم يغتسل ويصوم " , والجمهور كما هو معلوم على عدم العمل بحدث أبي هريرة ، فقيل : إن الحديث منسوخ ، لكن قال ابن كثير إن التاريخ لا يُعرف ، وقال أيضا: " ومنهم من حمله على نفي الكمال " فلا صوم له " لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز ، وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها ". ما معنى قوله نفي الكمال ؟ وما هو الراجح بين هذه الأقوال ؟
الحمد لله.
أولا :
" مَنْ أَجْنَبَ لَيْلاً ، ثُمَّ أَصْبَحَ صَائِمًا ، فَصَوْمُهُ صَحِيحٌ ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَلِكَ: لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا – قَالَتَا : ( نَشْهَدُ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ كَانَ لَيُصْبِحُ جُنُبًا، مِنْ غَيْرِ احْتِلاَمٍ ثُمَّ يَغْتَسِل ، ثُمَّ يَصُومُ ) قَال الشَّوْكَانِيُّ : وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ الإْجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَال ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إِنَّهُ صَارَ إِجْمَاعًا أَوْ كَالإْجْمَاعِ " انتهى من " الموسوعة الفقهية " (28/ 63) .
وانظر جواب السؤال رقم : (43307) ، (181351) .
وروى البخاري (1926) ، ومسلم (1109) أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( مَنْ أَدْرَكَهُ الْفَجْرُ جُنُبًا فَلَا يَصُمْ ) فبلغه قول عائشة وأم اسلمة السابق فقال لمن أخبره : " أَهُمَا قَالَتَاهُ لَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ ، ثُمَّ رَدَّ أَبُو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : سَمِعْتُ ذَلِكَ مِنَ الْفَضْلِ، وَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ أبو بكر بن عبد الرحمن (الراوي عن أبي هريرة) : فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَمَّا كَانَ يَقُولُ فِي ذَلِكَ " .
وروى ابن ماجة (1702) عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : " لَا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ، مَا أَنَا قُلْتُ : ( مَنْ أَصْبَحَ وَهُوَ جُنُبٌ فَلْيُفْطِرْ ) مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ ". وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجة" .
وروى ابن أبي شيبة (2/ 330) عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَجَعَ عَنْ فُتْيَاهُ : " مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلَا صَوْمَ لَهُ "
وقد اتفق العلماء على العمل بحديث عائشة وأم سلمة وعدم العمل بحديث أبي هريرة في هذا ، ويؤيد ذلك أن أبا هريرة رضي الله عنه نفسه قد رجع عن فتياه إلى قولهما .
وقد تعددت آراء العلماء في الجواب عن حديث أبي هريرة .
فقال بعضهم : يترجح حديث عائشة وأم سلمة على حديث أبي هريرة لأنه أصح إسنادا ، ولأن رواية اثنين مقدمة على رواية واحدٍ .
انظر : "نيل الأوطار" (4/ 253) .
قال الإمام البخاري رحمه الله بعد أن روى الحديثين : " وَالأَوَّلُ أَسْنَدُ " يعني حديث عائشة وأم سلمة .
وقال بعض العلماء : إن حديث أبي هريرة منسوخ .
قال ابن المنذر رحمه الله : " أَحْسَن مَا سَمِعْتُ فِي هَذَا : أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَحْمُولًا عَلَى النَّسْخِ ...... فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُفْتِي بِمَا سَمِعَهُ مِنَ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنَّسْخِ، فَلَمَّا سَمِعَ خَبَرَ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ صَارَ إِلَيْهِ " .
انتهى من "السنن الكبرى" للبيهقي (4/ 363)
ومن العلماء من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال المستحب .
قال ابن كثير :
" وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ " فَلَا صَوْمَ لَهُ " لِحَدِيثِ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ الدَّالَّيْنِ عَلَى الْجَوَازِ ، وَهَذَا الْمَسْلَكُ أَقْرَبُ الْأَقْوَالِ وَأَجْمَعُهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ " .
انتهى من " تفسير ابن كثير" (1/ 517) .
ومعنى نفي الكمال : أن الأفضل والأكمل لمن أراد أن يصوم أن يغتسل قبل الفجر ، ليكون على طهارة من أول اليوم ، فإن أخر الاغتسال إلى ما بعد الفجر فهو جائز .
جاء في "الموسوعة الفقهية" (28/ 63):
وَحُمِل حديث أبي هريرة عَلَى النَّسْخِ أَوِ الإْرْشَادِ إِلَى الأْفْضَل ، وَهُوَ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِل قَبْل الْفَجْرِ، لِيَكُونَ عَلَى طَهَارَةٍ مِنْ أَوَّل الصَّوْمِ " انتهى .
ولعل أقوى الأقوال أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه منسوخ ، ويدل لذلك أن أبا هريرة رجع إلى العمل بحديث عائشة وأم سلمة ، وترك ما كان يحدث به .
والله تعالى أعلم .