الحمد لله.
ثالثا :
لا نعرف عن أحد من السلف طلب رؤية الملائكة أو طلب التحدث إليهم وسأل الله ذلك ،
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرشدنا إلى سؤال الله تعالى ذلك ، ولم يفعله
السلف فإننا لا نفعله اقتداء بهم . فإن السلف الصالح لم يتركوا شيئا من الخير إلا
سبقونا إليه .
قال ابن كثير رحمه الله :
" أهل السنة والجماعة يقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة : هو بدعة ؛ لأنه
لو كان خيرا لسبقونا إليه ، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا
إليها " .
انتهى من " تفسير ابن كثير " (7 / 278-279) .
وبناء على هذا ؛ فلا يشرع دعاء الله تعالى برؤية الملائكة أو التحدث إليهم .
ويتأكد ذلك بأمرين :
الأول :
أنه لا مصلحة شرعية في هذه الرؤية ، فلا يترتب عليها استحباب شيء ، ولا كراهته ،
ولا غير ذلك من المصالح الشرعية الراجحة التي ينبغي أن يكون حرص المسلم على تحصيلها
.
الثاني :
أن من يرى الملائكة ، لا يمكنه أن يراهم في صورتهم الملائكية الحقيقية ؛ بل يراهم
في صورة بشرية يتمثلون فيها ؛ فإذا كان سيراهم كذلك ، فما فائدة التعني بطلب هذه
الرؤية ، إذا كان إنما يرى صورة بشرية كغيرها من الصور التي يراها ؟
وما الفارق الحقيقي أمامه بين هذه الصورة البشرية للملائكة ، والصور البشرية التي
يراها أمامه ؟
وكيف سيأمن اللبس الحاصل بين الصورتين ؛ وقد قال الله تعالى : ( وَلَوْ جَعَلْنَاهُ
مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ) ، قال
الشيخ رشيد رضا ، رحمه الله : " أَيْ لَوْ جَعَلَ الرَّسُولَ مَلَكًا لَجَعَلَ
الْمَلَكَ مُتَمَثِّلًا فِي صُورَةِ بَشَرٍ، لِتَمْكِينِهِمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ
وَسَمَاعِ كَلَامِهِ الَّذِي يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَلَوْ جَعَلَهُ
مَلَكًا فِي صُورَةِ بَشَرٍ لَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ بَشَرٌ لِأَنَّهُمْ لَا
يُدْرِكُونَ مِنْهُ إِلَّا صُورَتَهُ وَصِفَاتِهِ الْبَشَرِيَّةَ الَّتِي تَمَثَّلَ
بِهَا، وَحِينَئِذٍ يَقَعُونَ فِي نَفْسِ اللَّبْسِ وَالِاشْتِبَاهِ الَّذِي
يُلْبِسُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِاسْتِنْكَارِ جَعْلِ الرَّسُولِ بَشَرًا ،
وَلَا يَنْفَكُّونَ يَقْتَرِحُونَ جَعْلَهُ مَلَكًا، وَقَدْ كَانُوا فِي غِنًى عَنْ
هَذَا ، وَإِنَّمَا شَأْنُهُمْ فِيهِ شَأْنُ أَكْثَرِ النَّاسِ حَتَّى الْعُلَمَاءِ
مِنْهُمْ فِيمَا يُوقِعُونَ فِيهِ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْمُشْكِلَاتِ بِسُوءِ
اخْتِيَارِهِمْ ، وَمَا يَخْتَرِعُونَهُ مِنَ الشُّبَهَاتِ بِسُوءِ فَهْمِهِمْ ،
ثُمَّ يَحَارُونَ فِي أَمْرِ الْمَخْرِجِ مِنْهَا " .
انتهى من " تفسير المنار" (7/263) .
وينبغي للمسلم أن يشتغل
بالعمل الصالح وبالأدعية التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تدور
كلها حول دخول الجنة والنجاة من النار ، وأن يترك هذه الأماني التي لا عهد للسلف
بها .
وليعلم العبد الناصح لنفسه : أن الكرامة الأعظم أن يرزق الله عبده الهداية
والاستقامة ، وهذا هو الذي شرع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ندعو الله به ،
ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" غَايَةُ الْكَرَامَةِ لُزُومُ الِاسْتِقَامَةِ ، فَلَمْ يُكْرِمْ اللَّهُ عَبْدًا
بِمِثْلِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ، وَيَزِيدُهُ مِمَّا
يُقَرِّبُهُ إلَيْهِ وَيَرْفَعُ بِهِ دَرَجَتَهُ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (11/
298) .
ولربما سأل العبد رؤية الملائكة فيريه الشيطان ما يوهمه به رؤيتهم والتحدث إليهم ،
وهو في الحقيقة إنما رأى الشياطين وخاطبهم ، فيقع في الفتنة ، كما حصل لكثير من
الناس ، ممن قل علمهم ودينهم ، وضعف عقلهم وفهمهم .
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى .
والله أعلم .