الحمد لله.
ولابد لنا من معرفة عدة أمور
، هي بمثابة ضوابط أساسية لهذه المسألة ، فمنها :
- أن عالم الجن من عالم الغيب ، والغيب كله لله ، ولا يجوز لأحد أن يتكلم في الغيب
أو يخوض فيه إلا بالدليل الواضح والبرهان البين .
- أن الأصل في الجن الكافر أنه كذوب ، فإذا ادعى أنه أسلم لم يكن هناك ما يدل على
إسلامه إلا مجرد دعواه ؛ بل إن الصدق يقال : أنه لا سبيل لنا إلى معرفة المسلم
الحقيقي – الأصلي- منهم ، دع دعاوى من يدعي أنه تاب وأسلم ؛ فهيهات لنا أن نقف على
حقيقة ذلك .
- وكذا إذا ادعى أنه خرج من بدن الإنسي ، فلا يمكن التحقق من ذلك بمجرد هذه الدعوى
، ولا بما قد يظهر على المريض من مظاهر العافية ، فإن منهم من يستكين فيه ، ويخنس ،
ولا يزعجه ، فيظن الناس أنه خرج منه ، فإذا ادعى مع ذلك أنه أسلم ، ولن يضر أحدا
بعد ذلك صدقوه ، وهو في الحقيقة كذوب أثيم .
وكثيرا ما تجد المعالج يخاطب الجني ويكلمه ، ويسأله عن أشياء غيبية فيخبره ، فيظن
المسكين أنه يصدقه ولا يكذبه ، وأنه يطلع على بعض الغيب .
ومنهم من يستفسر من الجني عن حال الملبوس ، ومن لبسه ، وكم عددهم ، ويسأله عن
أسمائهم ، ومللهم ، فيخبره ، فيصدقه الراقي ، وهو كذوب .
- العلاج من مس الجن وصرعه إنما يكون بالطرق الشرعية التي لا تدخلها البدعة ولا
الخرافة ، فضلا عن الشرك والاستعانة بالجن .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله
:
" العلاج لجميع الأمراض وأنواع الصرع وغيره إنما يجوز بالطرق الشرعية والوسائل
المباحة ، ومنها القراءة على المريض ، والنفث عليه بالآيات والدعوات الشرعية "
انتهى من " فتاوى إسلامية " (1/30) .
فمن زعم أنه ينقل الجنى من
بدن المصاب إلى ما يسميه بالوسيط ، فليس معه إلا مجرد زعمه ، ومن أين له أنه انتقل
من هذا البدن إلى ذاك ؟ وما يدريه ، لعل الوسيط قد لبسه جني آخر ، وهو - لغفلته -
يظن أنه الأول .
ومن قال لهؤلاء أن قراءة القرآن والدعاء وسيلة لنقل الجني من بدن إلى بدن ؟!
ومن سلفهم في ذلك ؟
ثم : هل هذا الوسيط سيحتاج إلى رقية أخرى ، ووسيط آخر ، لإخراج الجن منه ؟ أم سيبقى
متلبسا به ؟ أم سيخرج من غير وسيط ؟
ليس من شك في أن مثل هذا التصرف : لا أصل في الشرع ، ثم يقبله عقل سليم .
ثم ما هي الفائدة المرجوة من نقل الجني إلى بدن الوسيط ، إلا ما توهموه ورسموه من منفعة ، وهي منفعة موهومة ، وقد يقع بتحصيلها أنواع من الشرك والبدعة .
ودعواهم أنهم تمكنوا من
القبض على الجني ، وأنهم دعوه للإسلام فأسلم ، لا دليل عليه إلا مجرد الدعوى في أمر
غيبي ، لا يطلع عليه إلا الله ، فهي دعوى فاسدة .
وسؤالهم الجني عن أمور غيبية من الشرك بالله ، إذ لا يعلم الغيب إلا الله .
فقد سئل علماء اللجنة : " هل
الجن يعلمون الغيب؟ " .
فأجابوا :
" علم الغيب من خصائص الربوبية، فلا يعلم غيب السماوات والأرض إلا الله ، قال تعالى
: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ) ، وقال جل جلاله
: ( قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا
اللَّهُ ) ، والجن لا يعلمون الغيب ، والدليل قوله تعالى : ( فَلَمَّا قَضَيْنَا
عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ
تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) ، فمن ادعى علم
الغيب فهو كافر ، ومن صدق من يدعي علم الغيب فهو كافر أيضا؛ لأنه مكذب للقرآن "
انتهى من " فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية " (2/6) .
وهذا الذي يفعلونه هو من جملة استمتاع الجن بالإنس ، والإنس بالجن ، قال تعالى : ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا ) الأنعام/ 128 .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" قَالَ البغوي : قَالَ بَعْضُهُمْ : اسْتِمْتَاعُ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ مَا
كَانُوا يُلْقُونَ لَهُمْ : مِنْ الْأَرَاجِيفِ وَالسِّحْرِ وَالْكَهَانَةِ
وَتَزْيِينُهُمْ لَهُمْ الْأُمُورَ الَّتِي يُهَيِّئُونَهَا وَيَسْهُلُ سَبِيلُهَا
عَلَيْهِمْ، وَاسْتِمْتَاعُ الْجِنِّ بِالْإِنْسِ طَاعَةُ الْإِنْسِ لَهُمْ فِيمَا
يُزَيِّنُونَ لَهُمْ مِنْ الضَّلَالَةِ وَالْمَعَاصِي.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هُوَ طَاعَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ وَمُوَافَقَةُ
بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
وَتَارَةً يَخْدِمُ هَؤُلَاءِ لِهَؤُلَاءِ فِي أَغْرَاضِهِمْ ، وَهَؤُلَاءِ
لِهَؤُلَاءِ فِي أَغْرَاضِهِمْ ، فَالْجِنُّ تَأْتِيهِ بِمَا يُرِيدُ مِنْ صُورَةٍ
أَوْ مَالٍ أَوْ قَتْلِ عَدُوِّهِ ، وَالْإِنْسُ تُطِيعُ الْجِنَّ .
وَمِنْ اسْتِمْتَاعِ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ : اسْتِخْدَامُهُمْ فِي الْإِخْبَارِ
بِالْأُمُورِ الْغَائِبَةِ ، كَمَا يُخْبَرُ الْكُهَّانُ ، فَإِنَّ فِي الْإِنْسِ
مَنْ لَهُ غَرَضٌ فِي هَذَا ؛ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ مِنْ الرِّيَاسَةِ وَالْمَالِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَمِنْ اسْتِمْتَاعِ الْإِنْسِ بِالْجِنِّ: اسْتِخْدَامُهُمْ فِي إحْضَارِ بَعْضِ
مَا يَطْلُبُونَهُ مِنْ مَالٍ وَطَعَامٍ وَثِيَابٍ وَنَفَقَةٍ؛ فَقَدْ يَأْتُونَ
بِبَعْضِ ذَلِكَ وَقَدْ يَدُلُّونَهُ عَلَى كَنْزٍ وَغَيْرِهِ " انتهى ملخصا من "
مجموع الفتاوى " (13/80-84) .
وقال الشيخ عمر سليمان
الأشقر رحمه الله :
" أحياناً تأتي الشياطين لا بطريق الوسوسة ؛ بل تتراءى له في صورة إنسان ، وقد يسمع
الصوت ، ولا يرى الجسم ، وقد تتشكل بصور غريبة ... وهي أحياناً تأتي الناس وتعرفهم
بأنها من الجن ، وفي بعض الأحيان تكذب في قولها ، فتزعم أنها من الملائكة ،
وأحياناً تسمي نفسها برجال الغيب ، أو تدعي أنها من عالم الأرواح ....
وهي في كل ذلك تحدث بعض الناس ، وتخبرهم بالكلام المباشر ، أو بوساطة شخص منهم يسمى
الوسيط ، تتلبس وتتحدث على لسانه ، وقد تكون الإجابة بوساطة الكتابة ...
وقد تقوم بأكثر من ذلك ، فتحمل الإنسان ، وتطير به في الهواء ، وتنقله من مكان إلى
مكان ، وقد تأتي له بأشياء يطلبها ، ولكنها لا تفعل هذا إلا بالضالين ، الذين
يكفرون بالله ربّ الأرض والسماوات ، أو يفعلون المنكرات والموبقات....
وقد يتظاهر هؤلاء بالصلاح والتقوى ، ولكنهم في حقيقة أمرهم من أضلّ الناس وأفسقهم ،
وقد ذكر القدامى والمحدثون من هذا شيئاً كثيراً ، لا مجال لتكذيبه والطعن فيه ؛
لبلوغه مبلغ التواتر " انتهى من " عالم الجن والشياطين " (ص93) .
بل إن فكرة " الوسيط " هذه ،
هي في أصلها متلقاة عن دعوة ملاحدة " الروحية " الحديثة ، الذين يزعمون أنهم قادرون
على الاتصال بعالم الغيب ، وتحضير الأرواح ، عن طريق هذا الشخص " الوسيط " .
وقد تحدث باستفاضة عن دجلهم ، وألاعيبهم : الدكتور محمد بن محمد حسين رحمه الله في
كتابه " الروحية الحديثة " ، ويمكن الرجوع إليه لمزيد الفائدة ، وقد نقل كثيرا من
مقاصده الشيخ الدكتور : عمر سليمان الأشقر رحمه الله ، في كتابه : " عالم الجن
والشياطين " .
والحاصل : أن هذه الفكرة المذكورة : ليس لها أصل في الطرق الشرعية للرقية ، بل مبدؤها من ضلالة الملاحدة " الروحيين " المحدثين ، في حيلهم وأكاذيبهم في " تحضير الأرواح " .
والله أعلم .