كيف يرد على من اتهم ابن تيمية بخرق الإجماع في طلاق الثلاث ؟
كيف نرد على من يقول : إن ابن تيمية عارض الإجماع بقوله إن ثلاث طلقات في مجلس واحد لا تحسب إلا طلقة واحدة ؟
الجواب
الحمد لله.
من أمانة العلم أن تؤدى مسائله على وجهها ، وأن تصان عن الكتمان أو التبديل أو
التحريف ، فليس لعالم أو طالب علم أن ينتصر لرأيٍ رآه ، بطمس الخلاف فيه ؛ لأن
ادعاء الإجماع ليس بالأمر الهيّن ؛ فهو المصدر الثالث من مصادر التشريع ، وتحرم
مخالفته لأنه مقطوع بصوابه ؛ إذِ الأمة لا تجتمع على ضلالة .
وقد وجد من ادعى الإجماع بدون بينة ، ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله : "من ادعى
الإجماع فهو كاذب ، وما يدريه لعلهم اختلفوا" ، وأرشد الإمام أحمد من لم يتيقن من
وجود الإجماع أن يقول : "لا نعلم الناس اختلفوا ، أو لم يبلغني ذلك".
قال ابن القيم رحمه الله بعد أن نقل هذا الكلام عن الإمام أحمد : " ونصوص رسول الله
صلى الله عليه وسلم أجل عند الإمام أحمد وسائر أئمة الحديث ، من أن يُقَدموا عليها
توهُمَ إجماعٍ مضمونُه عدمُ العلمِ بالمخالف ، ولو ساغ لتعطلت النصوص ، وساغ لكل من
لم يعلم مخالفًا في حكم مسألة ، أن يُقَدِّمَ جهلَه بالمخالف على النصوص ؛ فهذا هو
الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دعوى الإجماع ، لا ما يظنه بعض الناس أنه
استبعاد لوجوده " انتهى من " إعلام الموقعين" (1/24) .
إذن فالإمام أحمد وكذلك الشافعي أنكرا التساهل في دعوى الإجماع ، فليست كل مسألة لم
يعلم فيها الباحث أو العالم مخالفا تكون محل إجماع ، فقد يكون فيها خلاف بين
العلماء ، غير أن هذا الخلاف لم يصل إلى ذلك الشخص .
وقد سبق تفصيل القول في الإجماع وأنواعه وشروطه في السؤال رقم : (201682)
فليراجع.
ثانيا :
قد رَدَّ ابن القيم رحمه الله على من ادعى الإجماع الوارد في السؤال والمتعلق
بالطلاق ثلاثا ، وسرد أعلام القائلين بما يخالف هذه الدعوى من الصحابة والتابعين
ومن بعدهم .
فقال بعد أن ساق الأدلة من الكتاب والسنة على خلاف هذه الدعوى : " وكل صحابي من لدن
خلافة الصديق ، إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة ، فتوى أو
إقرارا أو سكوتا ، ولهذا ادعى بعض أهل العلم أن هذا إجماع قديم ، ولم تجمع الأمة
ولله الحمد على خلافه ، بل لم يزل فيهم من يفتي به قرنا بعد قرن ، وإلى يومنا هذا .
فأفتى به حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، كما رواه حماد بن زيد عن
أيوب عن عكرمة عن ابن عباس : " إذا قال : أنت طالق ثلاثا بفم واحد ، فهي واحدة "
وأفتى أيضا بالثلاث ، أفتى بهذا وهذا .
وأفتى بأنها واحدة : الزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، حكاه عنهما ابن وضاح
، وعن علي كرم الله وجهه وابن مسعود روايتان كما عن ابن عباس .
وأما التابعون : فأفتى به عكرمة ، رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه ، وأفتى به
طاوس.
وأما تابعو التابعين : فأفتى به محمد بن إسحاق ، حكاه الإمام أحمد وغيره عنه ،
وأفتى به خلاس بن عمرو والحارث العكلي .
وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه ، حكاه عنهم أبو
المفلس وابن حزم وغيرهما ، وأفتى به بعض أصحاب مالك ، حكاه التلمساني في شرح تفريع
ابن الجلاب قولا لبعض المالكية ، وأفتى به بعض الحنفية ، حكاه أبو بكر الرازي عن
محمد بن مقاتل ، وأفتى به بعض أصحاب أحمد ، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه ، قال :
وكان الجد يفتي به أحيانا [ يعني جده أبا البركات ابن تيمية صاحب المحرر ] .
والمقصود : أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم ، ولم
يأت بعده إجماع يبطله ، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أن الناس قد
استهانوا بأمر الطلاق ، وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة ؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم
بإمضائه عليهم ؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة ، بانت منه المرأة ، وحرمت عليه
حتى تنكح زوجا غيره ، نكاح رغبة يراد للدوام ، لا نكاح تحليل ، فإنه كان من أشد
الناس فيه ، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم ، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في
زمانه .
ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد الصديق وصدرا من
خلافته كان الأليق بهم ؛ لأنهم لم يتتابعوا فيه ، وكانوا يتقون الله في الطلاق ،
وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا ، فلما تركوا تقوى الله ، وتلاعبوا بكتاب الله ،
وطلقوا على غير ما شرعه الله ، ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم .
فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة ، ولم يشرعه كله مرة واحدة ، فمن جمع
الثلاث في مرة واحدة ، فقد تعدى حدود الله ، وظلم نفسه ، ولعب بكتاب الله ، فهو
حقيق أن يعاقب ، ويلزم بما التزمه ، ولا يقر على رخصة الله وسعته ، وقد صعبها على
نفسه ، ولم يتق الله ولم يطلق كما أمره الله وشرعه له ، بل استعجل فيما جعل الله له
الأناة فيه ، رحمة منه وإحسانا ، ولبس على نفسه ، واختار الأغلظ والأشد .
فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان ، وعلم الصحابة رضي الله عنهم حسن سياسة عمر
، وتأديبه لرعيته في ذلك ، فوافقوه على ما ألزم به ، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك ؛
فقال عبد الله بن مسعود : من أتى الأمر على وجهه فقد بُيِّن له ، ومن لبس على نفسه
، جعلنا عليه لبسه ، والله لا تلبسون على أنفسكم ، ونتحمله عنكم ، هو كما تقولون .
فلو كان وقوع الثلاث ثلاثا في كتاب الله وسنة رسوله ، لكان المطلّق قد أتى الأمر
على وجهه ، ولما كان قد لبس على نفسه ، ولَمَا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن
فعل ذلك : ( تلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ) ؟ " انتهى من "إعلام الموقعين"
(3/33-35) .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (96194)
.
والله أعلم .