الحمد لله.
أولا :
دلت الآيات والأحاديث على أن كلام الله عز وجل بحرف وصوت ، كما قال سبحانه لموسى
عليه السلام : ( فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ) وكان يكلمه من وراء حجاب ، لا ترجمان
بينهما ، واستماع البشر في الحقيقة لا يقع إلا للصوت .
وقال الله تعالى : ( وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى ) وقال تعالى : ( هَلْ أَتَاكَ
حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً ) وقال جل
جلاله : ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي
الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ ) والنداء عند العرب لا يكون إلا بصوت ، ولم يرد عن الله تعالى
ولا عن رسوله عليه السلام أنه من الله بغير صوت .
وقال تعالى ( وناديناه من جانب الطور الأيمن وقرَّبناه نجياً ) مريم/52 ، والنداء
والمناجاة لا تكون إلا بصوت .
وعن عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (يُحْشَرُ النَّاسُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُرَاةً حُفَاةً بُهْمًا فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ
مِنْ بُعْدٍ كَمَا يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ : أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ)
أخرجه أحمد ، وصححه الألباني في " الصحيحة " ( 7/757 ) .
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يَقُولُ اللَّهُ: يَا آدَمُ،
فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، فَيُنَادَى بِصَوْتٍ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ
أَنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إِلَى النَّارِ...) أخرجه البخاري (4741)
.
ثانيا :
يجب أن يُعلم أن الله تعالى إذا وصف نفسه بصفة معقولة عند العرب ، ولم يبين سبحانه
أنها بخلاف ما يعقلونه ، ولا فسرها النبي صلى الله عليه وسلم حين أخبر بها ، بتفسير
يخالف ظاهرها : فهي على ما يعقلونه ويعرفونه .
وهذ التقرير يقتضي أن يكون كلامه سبحانه وتعالى حرفاً وصوتاً ، بإقرار جميع الأئمة
، الذين سمعوا هذه الآيات والأحاديث ، ولم يحرفوا معناها أو يتأولوها على غير
ظاهرها .
ومن زعم خلاف ذلك ، فهو المطالب بأن يثبت أن السلف تأولوها على غير ظاهرها.
قال الإمام أبو نصر السجزي رحمه الله : " ينبغي أن ينظر في كتب من درج ، وأخبار
السلف : هل قال أحد منهم : إن الحروف المتسقة التي يتأتى سماعها وفهمها ، ليست
بكلام الله سبحانه على الحقيقة ؟ وأن الكلام غيرها ومخالف لها ، وأنه معنى لا يدرى
ما هو ، غير محتمل شرحاً وتفسيراً ؟ فإن جاء ذلك عن أحد من الأوائل والسلف ، وأهل
النحل قبل مخالفينا الكلابية والأشعرية عذروا في موافقتهم إياه .
وإن لم يرد ذلك عمن سلف من القرون والأمم ، ولا نطق به كتاب منزل ، ولا فاه به نبي
مرسل ، ولا اقتضاه عقل عُلم جهل مخالفينا وإبداعهم ، ولن يقدر أحد في علمي على
إيراد ذلك عن الأوائل ، ولا اتخاذه إياه دينا ، في أثر ولا عقل " .
انتهى من " رسالة السجزي إلى أهل زبيد " (ص215) .
وقال ابن قدامة رحمه الله :
" هاتوا أخبرونا من قال قبلكم : إن هذا القرآن عبارة وحكاية ، وأن حقيقة القرآن
معنى قائم في النفس.. أخبرونا هل وجدتم هذه الضلالة ، وقبيح المقالة ، عند أحد من
المتقدمين سوى قائدكم " [ يعني أبا الحسن الأشعري ] "
. انتهى من " رسالة في القرآن وكلام الله " (ص52) .
ثالثا :
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وليس في الأئمة والسلف من قال : إن الله لا يتكلم بصوت ، بل قد ثبت عن غير واحد
من السلف والأئمة : أن الله يتكلم بصوت ، وجاء ذلك في آثار مشهورة عن السلف والأئمة
، وكان السلف والأئمة يذكرون الآثار التي فيها ذكر تكلم الله بالصوت ولا ينكرها
منهم أحد ، حتى قال عبد الله بن أحمد : قلت لأبي : إن قوما يقولون : إن الله لا
يتكلم بصوت ؟ فقال : يا بني هؤلاء جهمية إنما يدورون على التعطيل . ثم ذكر بعض
الآثار المروية في ذلك .
وكلام " البخاري " في " كتاب خلق الأفعال " صريح في أن الله يتكلم بصوت ، وفرّق بين
صوت الله وأصوات العباد ، وذكر في ذلك عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
وكذلك ترجم في كتاب الصحيح باب في قوله تعالى: ( حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا
قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ) وذكر ما دل على أن الله يتكلم بصوت " انتهى
من " مجموع الفتاوى " (6/527) .
وقال السجزي رحمه الله :
" فقول خصومنا : إن أحداً لم يقل إن القرآن كلام الله حرف وصوت ؛ كذب وزور ، بل
السلف كلهم كانوا قائلين بذلك ، وإذا أوردنا فيه المسند ، وقول الصحابة من غير
مخالفة وقعت بينهم في ذلك : صار كالإجماع .
ولم أجد أحداً يعتد به ، ولا يعرف ببدعة : من نفر من ذكر الصوت إلا البويطي ، إن صح
عنه ذلك . فإن عند أهل مصر رسالة يزعمون أنها عنه ، وفيها : لا أقول إن كلاَم الله
حرف وصوت ، ولا أقول إنه ليس بحرف وصوت . وهذا إن صح عنه فليس فيه أكثر من إعلامنا
أنه لم يتبين هذه المسألة ، ولم يقف على الصواب فيها .
وأما غيره ممن نفى الحرف والصوت : فمبتدع ظاهر البدعة ، أو مقروف بها مهجور على ما
جرى منه. والله الموفق للصواب " انتهى من " رسالته إلى أهل زبيد " (ص260) .
ومن أراد الاستزادة فليراجع
هذه الرسالة ، فهي رسالة قيمة ، وقد خصصها أبو نصر رحمه الله ، للرد على من أنكر
الحرف والصوت ، وكذلك رسالة " التسعينية " لشيخ الإسلام ابن تيمية ، فقد رد فيها
على الأشاعرة من تسعين وجها ، جعل منها ثمانية وسبعين وجها للرد على بدعتهم في كلام
الله سبحانه وتعالى .
وللفائدة ينظر جواب السؤال : (100585) .
والله أعلم .