حكم السخرية من تحريم فقهاء الحنفية للروبيان أو الجمبري
المذهب الحنفي - كما تعلمون - يحرّم سمك الروبيان ( الجمبري ) ، مما يجعلنا في بعض الأحيان نطلق الفكاهات على الأتراك الذين يتبعون المذهب الحنفي ، ويحرمون أنفسهم هذه النعمة .
ثم أدركت فيما بعد أن هذا قد يدخل تحت مسمى الاستهزاء بالدين .
فأريد منكم التوضيح بهذا الشأن ؛ أي : هل السخرية من بعض أحكام المذاهب الفقهية - كهذا الحكم السالف الذكر - من قبيل الاستهزاء بالدين . وإذا كان كذلك ، هل تجب علي التوبة ؟
الجواب
الحمد لله.
المزاح في حكم فقهي مقرر عند أحد المذاهب المعتبرة ليس استهزاء بالدين نفسه ، إلا
إذا كان يعلم أن هذا الحكم الذي يسخر به ، قد جاء به الدين ، فحينها تخشى عليه
الردة والخروج من الإسلام .
أما إذا كان المازح أو الساخر لا يعتقد أن هذا الحكم من الدين أصلا ، ويرى براءة
الشريعة منه ، فقد أتى محرما شرعيا وأخلاقيا ، فهو – على أقل الأحوال – استهزاء
بمذهب فقهي معتبر ، له علماؤه وأئمته الذين يحترمهم المسلمون ويعظمونهم ويبجلونهم ،
وهذا أمر لا يليق بالمسلم ولا يصدر عنه ؛ وهذا المذهب كغيره من مذاهب أهل السنة
الفقهية ينطلق من الأدلة الشرعية ، فلا يجوز لأحد أن يسخر من اجتهادات علمائه ،
والله عز وجل يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ
قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ) الحجرات/11، فمن باب أولى أن لا
يسخر الناس من قول معتبر لدى العلماء عسى أن يكون هذا القول أهدى سبيلا عند الله ،
ما دام في دائرة الاجتهاد .
يقول العلامة الكاساني الحنفي رحمه الله – مستدلا على حرمة حيوانات البحر غير السمك
بأنها ميتة ، ومجيبا على أدلة الجمهور -:
" ولنا قوله تبارك وتعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الْخِنْزِيرِ ) المائدة/3، من غير فصل بين البري والبحري .
وقوله عز شأنه : ( وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِث ) الأعراف/157، والضفدع
والسرطان والحية ونحوها من الخبائث .
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سئل عن ضفدع يجعل شحمه في الدواء . فنهى
عليه الصلاة والسلام عن قتل الضفادع ) وذلك نهي عن أكله . وروي أنه لما سئل عنه
فقال عليه الصلاة والسلام : ( خبيثة من الخبائث )
ولا حجة لهم في الآية [يعني قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ
وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ) المائدة/96]؛ لأن المراد من الصيد
المذكور هو فعل الصيد ، وهو الاصطياد ؛ لأنه هو الصيد حقيقة لا المصيد ؛ لأنه مفعول
فعل الصيد ، وإطلاق اسم الفعل يكون مجازا ، ولا يجوز العدول عن حقيقة اللفظ من غير
دليل ؛ ولأن الصيد اسم لما يتوحش ويمتنع ، ولا يمكن أخذه إلا بحيلة ، إما لطيرانه ،
أو لعدوه ، وهذا إنما يكون حالة الاصطياد ، لا بعد الأخذ ؛ لأنه صار لحما بعده ،
ولم يبق صيدا حقيقة لانعدام معنى الصيد ، وهو التوحش والامتناع ، والدليل عليه أنه
عطف عليه قوله عز شأنه : ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ
حُرُمًا ) المائدة/96 والمراد منه الاصطياد من المحرم لا أكل الصيد ؛ لأن ذلك مباح
للمحرم إذا لم يصطده بنفسه ولا غيره بأمره ، فثبت أنه لا دليل في الآية على إباحة
الأكل ، بل خرجت للفصل بين الاصطياد في البحر وبين الاصطياد في البر للمحرم .
والمراد من قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( والحل ميتته ) السمك خاصة ، بدليل
قوله صلى الله عليه وسلم : ( أحلت لنا ميتتان ودمان : الميتتان السمك والجراد ،
والدمان الكبد والطحال ) فسَّر عليه الصلاة والسلام بالسمك والجراد ، فدل أن المراد
منها السمك ، ويحمل الحديث على السمك ، وتخصيصه بما تلونا من الآية ، وروينا من
الخبر " .
انتهى من " بدائع الصنائع " (5/ 35-36)
وكلام الكاساني رحمه الله محل نظر ومناقشة عند جمهور الفقهاء ، ولكن مقصودنا هنا أن
نتأمل كيف يحتج فقهاء الحنفية بالأدلة ، وليس بالهوى والتشهي ، الأمر الذي يؤكد أن
الاستهزاء أو التنقص باسم المزاح ، ليس من العلم ولا من الأدب ، ولكنه في الوقت
نفسه لا يعد كفرا أو استهزاء بالدين نفسه ، تقديرا لاعتقاد المازح نفسه في المسألة
، وأنه لا يراها من الشريعة .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الاستهزاء بقول غيرك من أهل العلم وإن كنت عالماً لا يحل ، ما دامت المسألة مبنية
على الاجتهاد ، فإنه ليس اجتهادك أولى بالصواب من اجتهاد الآخر ، وليس اجتهاده أولى
بالصواب من اجتهادك ، والصواب من اجتهاديكما ما وافق الكتاب والسنة " .
انتهى من " فتاوى نور على الدرب للعثيمين " (4/ 2، بترقيم الشاملة آليا) .
فالواجب على المسلم أن يحفظ لسانه ، ويكف عن السخرية من المسلمين وعلمائهم وإطلاق
الفكاهات عليهم ، وتزداد حرمة المسلم إذا كان عالما بالشريعة وقدوةً للناس .
والله أعلم .