الحمد لله.
ففي سورة الأعراف نسب القول
للملأ ، وفي سورة الشعراء نسب لفرعون ، وهذا ليس تعارضا ، لأن الجميع قد قالوا هذا
القول ، ومن شأن الحاشية أن تردد كلام ملكها ، فهم جميعا قالوا : (إن هذا لساحر
عليم) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : "( قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ
هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ، يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا
تَأْمُرُونَ )
أي : قال الملأ - وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون - موافقين لقول فرعون فيه ، بعد
ما رجع إليه روعه ، واستقر على سرير مملكته بعد ذلك ، قال للملأ حوله -: ( إِنَّ
هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) فوافقوه وقالوا كمقالته ، وتشاوروا في أمره ، وماذا
يصنعون في أمره ... " .
انتهى من " تفسير ابن كثير " ( 3 / 455 ) .
وقال أبو حيان الأندلسي رحمه الله تعالى :
" ( قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) وفي
الشعراء : ( قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) .
والجمع بينهما : أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام ، فحكى هنا قولهم ، وهناك قوله .
أو قاله ابتداء ، فتلقفه منه الملأ ، فقالوه لأعقابهم ، أو قالوه عنه للناس على
طريق التبليغ ، كما تفعل الملوك ؛ يرى الواحد منهم الرأي ، فيكلم به من يليه من
الخاصة ، ثم تبلغه الخاصة العامة " انتهى من " البحر المحيط " ( 4 / 358 ) .
فإن قيل : إذا كانوا كلهم قد
قالوه ، فما وجه مناسبة تنويع نسبة هذا القول ، فمرةً نسب إلى فرعون ، ومرة أخرى
إلى الملأ ؟
فالجواب :
أن نسبة القول جاءت في كل موضع موافقة لسياق القصة.
ففي سورة الأعراف ذكر الملأ في بداية القصة وأن موسى عليه السلام أرسل إليهم ،
فناسب ذلك أن يذكر ردهم حين خاطبهم موسى عليه السلام ، وأراهم الآيات .
وأما في سورة الشعراء ، فلم يذكر فيها الملأ .
قال الله تعالى : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى
فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُفْسِدِينَ ) الأعراف/ 103.
قال أبو جعفر بن الزبير الغرناطي رحمه الله تعالى :
" بقى السؤال عن جه اختصاص كل سورة بما خصت به ؟
والجواب أنه لما تقدم في سورة الأعراف قوله تعالى : ( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن
بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) ، فوقع ذكر الملأ
مبعوثا إليهم مع فرعون ، ناسب ذلك أن يذكروا في الجواب حتى يكون في قوة أن لو قيل :
بعث إليهم وخوطبوا ، فقالوا ، ولم يكن ليناسب " بعث إليهم " فقال : فرعون ...
فإن قيل: فقد قيل في الأعراف : ( إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ) فقدم فرعون ، فهو
أعمد من الملأ لأنهم أتباعه وآله ، فلِمَ لمْ يُبنَ الجواب على ذلك فيقال " قال
فرعون " ؟
فالجواب : أنه لو قيل : قال فرعون لبقى التشوف إلى تعريفهم قول الملأ وهم قد بعث
إليهم وخوطبوا ولابد من تعرف جوابهم ...
ثم قال : " ولما تقدم في سورة الشعراء قوله : ( فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ ) ثم جرى ما
بعد المحاورة ومراجعة الكلام بين موسى ، عليه السلام ، وفرعون ، ولم يقع الملأ هنا
، ناسب ذلك قوله " قال فرعون " لأنه الذى راجع وخوطب ، فجاء كل على ما يناسب " .
انتهى من " ملاك التأويل " ( 1 /214- 215 ) .
وقال البقاعي رحمه الله تعالى : "( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ) أي شديد
المعرفة بالسحر ، وخص في هذه السورة إسناد هذا الكلام إليه ، لأن السياق كله
لتخصيصه بالخطاب ، لما تقدم ... ولا ينفي ذلك أن يكون قومه قالوه إظهاراً للطواعية
- كما مضى في الأعراف " .
انتهى من " نظم الدرر في تناسب الآيات والسور " ( 14 / 29 ) .
ثانيا :
قال الله تعالى في سورة الأعراف : ( قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا
إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) الأعراف/106 .
وقال سبحانه في سورة الشعراء : ( قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ ،
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) الشعراء /31 .
ففي سورة " الأعراف " ( فَأْتِ بِهَا ) فأنث الضمير لأنه راجع إلى لفظ ( آيَةٍ )
وهي مؤنثة.
وفي سورة " الشعراء " ( فَأْتِ بِهِ ) فذكّر الضمير لأنه راجع إلى ( شَيْءٍ
مُّبِينٍ ) وهو لفظ مذكَّر .
ولعل وجه الإشكال عند السائل
هو :
أن الواقعة واحدة ، ولا بدّ أن فرعون قال لفظا واحدا ، فلماذا جاء في القرآن بلفظين
؟
والجواب :
من المعلوم ، أن الحوار بين موسى عليه السلام وفرعون لم يكن باللغة العربية ، وإنما
كان بلغتهم ، وهذا القرآن قد نزل بلسان عربي مبين .
فالله سبحانه وتعالى يذكر لنا معنى الحوار الذي جرى بينهم ، وليس نفس ألفاظ الحوار
لأن اللغتين مختلفتان .
ونقل معنى كلام ما ، إلى لغة أخرى : يجوز أن يُعبَّر عنه بأي لفظ يدل على المعنى ،
ولا يشترط الالتزام بلفظ معين ، بل التنويع في التعبير ، مع الحفاظ على المعنى : هو
من البلاغة المحمودة .
و " الآية "، "والشيء المبين " في لغة العرب : معناهما واحد ، وهو : كل ما يدل
بوضوح على الحق ويميزه عن الباطل .
قال أبو جعفر بن الزبير الغرناطي رحمه الله تعالى في مسألة شبيهة بموضوعنا :
" والجواب عن السؤال الأول : أن قول موسى ، عليه السلام ، لا توقف في أنه لم ترد
حكايته إلا بالمعنى ، لاختلاف اللسانين كما تقدم ، وإذا تقرر كونها بالمعنى ،
والترادف فيما بين اللغتين ، في كل لفظتين يراد بهما معنى واحد ، غير مطرد ؛ فلا
إشكال في أن المعنى قد يتوقف حصوله ، على الكمال ، على تعبيرين أو أكثر ، لا سيما
مع ما في اللسان العربي من الاشتراك والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والحقيقة
والمجاز ، وغير ذلك من عوارض الألفاظ ، فكيف ينكر اختلاف التعبير عن المعنى الواحد
بألفاظ وعبارات مختلفة ؟!
بل نقول : إنه لو كان المحكي قولاً عربياً ، وحكي بالمعنى : لما استُنكر اختلاف
العبارة ، فكيف مع اختلاف اللسانين ؟ " انتهى من " ملاك التأويل " ( 2 / 337) .
ولمزيد الفائدة راجع الفتوى رقم : ( 140060
) .
والله أعلم .